شاءت المقادير التي ساقتني إلى مدينة تونس عاصمة الجمهورية التونسية طوال الأسبوع الماضي، للمشاركة مع زملاء وخبراء آخرين لمحاولة وضع مشروع دستور يحكم الدولة الليبية، إذا صح أن هناك دولة ليبية كما سنرى بعد قليل أهمية هذا التساؤل.
وقد حاولت بكل تجرد وبحكم انتمائي العربي أن أسهم في هذا الأمر. وكان معي الزميل الفاضل والأستاذ القدير الدكتور صلاح فوزي رئيس قسم القانون العام في جامعة المنصورة، والذي أثرى المناقشات بآرائه السديدة والقيمة.
هذه المقادير التي ساقتني إلى تونس في الأسبوع الماضي هي التي ساقتني في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي بعد ثورة 1952، التي قادها الزعيم جمال عبد الناصر، وبشّر فيها بالعروبة إلى ليبيا أثناء الحكم الملكي هناك حيث بدأت ليبيا في تطبيق نظام قضائي حديث كان من مقتضاه اختيار ثلاثة رؤساء نيابة للأقاليم الليبية الثلاثة آنذاك – طرابلس في الغرب وبنغازي في الشرق وفزان في الجنوب. وطلبت ليبيا من مصر ثلاثة من أعضاء الهيئات القضائية ليشغلوا مناصب رؤساء النيابة في الولايات الثلاث.
وكنت أصغر المختارين، فعيّنت رئيساً لنيابة فزان على حين اختير أقدم الزملاء لولاية طرابلس ومن بعده لولاية بنغازي. وكان القانون يقتضي أن يحلف رئيس النيابة اليمين أمام الملك قبل أن يتولى عمله. ولما كانت المهمة التي ذهبت إليها أخيراً هي مهمة المشاركة في وضع مشروع الدستور الجديد، فقد يحسن أن نلقي نظرة سريعة على خطوات التطور الدستوري في هذا البلد.
ونستطيع أن نقول إن البداية كانت في 7 أكتوبر 1951، حيث وضعته لجنة مكونة من الولايات الثلاث (برقة وطرابلس وفزان)، وجاء في مقدمة ذلك الدستور عبارة جميلة تقول إن ممثلي الشعب الليبي الذين أقروا ذلك الدستور يضعونه وديعة لدى الملك محمد إدريس السنوسي.
وهكذا نرى أن دستور 1951 كان دستوراً ملكياً نيابياً فيدرالياً، واستمرت تلك المرحلة الدستورية الأولى من 1951 إلى 1963، لعلها كانت من أكثر السنوات استقراراً في حياة الشعب الليبي.
وحدث أن جاء معمر القذافي إلى رأس السلطة. ويقول الدكتور سالم الكتبي في كتابه عن التاريخ الدستوري في ليبيا «رأيت أيضاً أن أضمن محتويات هذه الطبعة شاهداً على أكاذيب وحماقات فترة السفه.. المتمثلة في عمل دستور أو ميثاق وطني عام 2007، ويلاحظ أن هذا الميثاق لا يختلف في بنوده عّما ورد في (الكتاب الأخضر) فقد استنبطت نصوصه منه».
ويستطرد الدكتور الكتبي موضحاً كيف حدث الانقلاب على الشرعية الدستورية وألغي الدستور تماماً، ودخلت ليبيا كلها في دوامة مخيفة من عدم الاستقرار السياسي، وساد حكم دكتاتوري يدعي أنه يقوم على اللجان الثورية. والحقيقة أنه كان يقوم على حكم الغوغاء والسفهاء. وأصبحت ليبيا أضحوكة العالم.
وككل الطغاة في التاريخ كان لابد أن ينتهي نظام القذافي، وكان لابد أن يقتل وأن يمثّل بجثته، وأن ينتهي عهده البغيض. ولكن لأن الدكتاتورية لا تأتي بخير قط، فإن ليبيا بعد فترة الفوضى والسفه والطغيان ما زالت قبائلها تتحارب في الوقت الذي يراد فيه من جمعية تأسيسية اختارها المجلس النيابي في طبرق كنتيجة من نتائج ثورة 17 فبراير، التي أنهت قانونيا كل نظام القذافي.
وها نحن نجتمع، وفي فندق فخم في أطراف العاصمة التونسية، حيث تحاول الجمعية التأسيسية أن تضع مشروع الدستور.
وقد كررت أكثر من مرة وأنا أخاطب أعضاء اللجنة التأسيسية إن ليبيا أمانة في أعناقكم. وكم استشهدت بالشهيد العظيم عمر المختار، الذي كنت أسعد بمجرد المرور في شارعه بمدينة طرابلس، وأتذكر الرثاء الذي قيل فيه:
ركزوا رفاتــك في الرمـــال لواء يستنهض الوادي صبـاح مسـاء
يا ويلهـم ركـــزوا لــواء من دم يوحي إلى جيل الغد البغضــاء
ما ضر لو جعلوا العلاقة في غدٍ بين الـشـــعوب مودة وإخــاء
وكنت أقصد من وراء ذلك كله إثارة همم أعضاء اللجنة التنفيذية للحرص على مستقبل ليبيا.
ولعل أهم التوصيات الدستورية التي أشرت إليها هو أن تأخذ ليبيا الحديثة بنظام الدولة الموحدة، التي تقوم على عدد من المحافظات تتمتع بلا مركزية لها قدر من الاستقلال المالي. كذلك أن تمر البلاد بفترة انتقالية لا تزيد على عشر سنوات يختار فيها رئيس الجمهورية من قبل المجالس النيابية، ثم انتخاب رئيس الجمهورية انتخاباً مباشراً.
وذلك على اعتبار أن مدة رئيس الجمهورية ستكون خمس سنوات، وأن المدتين الأولى والثانية هي التي ستتمثل فيها المرحلة الانتقالية، وبعدها يختار الرئيس مباشرة من قبل الشعب وذلك بعد إقرار مشروع الدستور عن طريق الاستفتاء العام. كل الذي أرجوه أن تصمم اللجنة التنفيذية على الانتهاء من وضع الدستور من أجل إنقاذ الشعب الليبي من هذا الاضطراب الذي يعيشه والذي يستحق شيئاً أفضل منه.