لا يخلو أيّ مجتمع، مهما كان حجمه، من مظاهر وعوامل انقسام، مثلما تكمن فيه أيضاً عناصر التوحّد والوئام. إنّهّا سنّة الحياة في الجماعات البشرية، منذ تكوّنها على أشكال تكتّلات عائلية وعشائرية وقبلية، وصولاً إلى ما هي عليه الآن من أممٍ وأوطان.
لكن المحطة المهمّة في مسيرة تطوّر الشعوب، هي كيفيّة التعامل مع طبيعة الانقسامات فيها. أي، هل يكون الانقسام على قضايا سياسية؟ اجتماعية واقتصادية؟ أم هو تبع لتنوّع ثقافي/إثني، أو ديني/طائفي، أو قبلي/عشائري؟ فكلّ حالة من تلك الحالات لها سماتها التي تُحدّد ماهيّة الأطراف المتصارعة وأساليبها وأهدافها.
فالمشكلة ليست في مبدأ وجود انقسامات داخل المجتمعات والأوطان، بل هي في انحراف الانقسامات السياسية والاجتماعية إلى مساراتٍ أخرى تُحوّل الاختلاف الصحّي السليم في المجتمع إلى حالة مرضية مميتة أحياناً، كما يحدث في الصراعات الإثنية والطائفية والقبلية. فكثيرٌ من المجتمعات الإفريقية والآسيوية شهدت، ولا تزال، حروباً أهلية على أسس طائفية وإثنية وقبلية.
كذلك مرّت القارّة الأوروبية بهذه المرحلة في قرونٍ مختلفة، وكان ما شهده عقد التسعينيات من حرب الصرب في يوغسلافيا ومن الأزمة الأيرلندية هو آخر هذه الصراعات، رغم التحوّل الكبير الذي حصل في أوروبا وفي أنظمتها السياسية خلال القرن العشرين.
أيضاً، رغم انتخاب باراك حسين أوباما كأوّل رئيس أميركي من أصول إفريقية، فإنّ الولايات المتحدة الأميركية ما زالت تعيش حالةً عنصرية شديدة على أساس عرقي، رغم التنوع الثقافي والإثني الذي تتميّز به.
وقد شهدت أميركا منذ قرنٍ ونصف القرن حرباً أهلية دامية، كان عنصراً مهمّاً فيها هو الصراع حول الموقف من مسألة «العبيد»، ومن هم من غير ذوي البشرة البيضاء والأصول العرقية الأوروبية..
وتستمرّ مظاهر التفرقة العنصرية في أميركا حتّى الآن بأشكال وأماكن مختلفة رغم ما نصّ عليه الدستور الأميركي من مساواةٍ بين كلّ المواطنين، ورغم وجود نظام سياسي ديمقراطي علماني يؤكّد على مفهوم «المواطنة» وينبذ المسألة العنصرية!
إذاً، فإنّ عوامل الانقسام ومظاهره ستبقى قائمة في أيِّ مجتمع مهما بلغ هذا المجتمع من تقدّم اجتماعي وسياسي ومن تفوّق علمي وحضاري ومن تطوّر دستوري مدني، لكن المهم ألا تكون عناصر الانقسام السائدة فيه هي متأزّمة إلى حدٍّ يدفع لحدوث حروب أهلية.
فالتعدّدية والتنوّع بمختلف أشكالهما هما سنّة الخالق الحتمية على هذه الأرض، والطبيعة تؤكّد تلك الحقيقة في كلِّ زمانٍ ومكان. لكن ما هو خيار بشري ومشيئة إنسانية هو كيفيّة التعامل مع هذا «التنوّع» وهذه «التعدّدية»، ومن ثمّ اعتماد ضوابط لأساليب التغيير التي يمكن استخدامها في المجتمعات.
أمّا البلاد العربية والإسلامية فينطبق عليها الآن وصف مرض «ازدواجية الشخصية». ففي معظم هذه البلدان تزداد على المستوى الفردي ظاهرة «التديّن» واهتمام الناس بالعبادات الدينية، لكن مع ابتعادٍ كبير لهذه المجتمعات عن مبادئ الدين وقيَمه وفروضه الاجتماعية.
فالدين الحنيف يربط بين الإيمان والعمل الصالح، أي بين النظرية والتطبيق، بين الشعار والممارسة. فهل يفعل العرب والمسلمون ذلك حقّاً؟. إنّ الأمّة العربية تقوم ثقافتها الدينية وحضارتها على الحوار مع الآخر بينما لا يفعل ذلك ناسُها. الأمّة العربية هي مهبط كل الرسل والرسالات..
وفيها ظهرت قبل الإسلام حضاراتٌ كثيرة ورسالاتٌ سماوية. كذلك في الدين الإسلامي دعوةٌ صريحة للتّعارف بين الشعوب ولعدم التفريق بين الرسل والأنبياء. فهي أمَّة عربية مجبولة على التعدّدية والتنوّع وعلى حقّ وجود الآخر.
إنّ المسلمين عموماً، والعرب خصوصاً، بحكم دور ثقافتهم ولغتهم واحتضان أرضهم للمقدّسات الإسلامية، مدعوون إلى مراجعة هذا الانفصام الحاصل في شخصية مجتمعاتهم.
أين المسلمون مع أنفسهم ومع محيطهم العائلي والوطني، ممّا يقولونه في صلاتهم ويقرأونه في كتاب الله العزيز والسيرة النبوية الشريفة من مفاهيم وقيم وضوابط السلوك في التعامل مع النفس و«الآخر» حتّى لو كان عدوّاً أو أسيراً؟
في موسم الحجّ مثلاً الذي نعيشه الآن، يلتقي من بقاع الأرض قاطبةً، ملايينٌ من البشر. ويتساوى على أرض مكّة وفي مناسك الحج: الغنيّ والفقير، الأبيض والأسود والأسمر، الرجال والنساء، والحاكم والمحكوم. وفي الحجّ أيضاً تظهر وحدة الجنس البشري ووحدة الدين الإسلامي، فلا تمييز في الحجّ ومناسكه بين عربيٍّ وأعجميّ، ولا بين مسلمٍ من هذا المذهب أو ذاك.
من المحتّم أنّ إصلاح المجتمعات العربية أولاً هو السبيل إلى إصلاح الدول وأنظمة الحكم. وإصلاح المجتمع أولاً، يعني البناء السليم للمؤسسات الأهلية المدنية، ولمراكز الفكر والثقافة، ولمعاهد الإعداد الديني، ولكيفية تربية وتنشئة الجيل الجديد.