لعل من أروع ما قرأت في السنوات الأخيرة كتاب «فجر الضمير» الذي ألفه عالم المصريات الكبير «جيمس هنرى بريستيد» وهو أستاذ أميركي متخصص في الدراسات القديمة، وقد ترجم كتابه بواسطة متخصص آخر في التاريخ المصري القديم هو الدكتور سليم حسن الذي تعلمنا جميعاً من موسوعته «مصر القديمة».
لكن يبقى كتاب «فجر الضمير» معلماً وحيداً مضيئاً على ما كان يجري في وادي النيل قبل التاريخ بقرون.
وكان من الشائع قبل ظهور هذا الكتاب الرائع – بل ومازال ذلك اعتقاد الكثيرين حتى الآن – كان من الشائع أن حضارة العبرانيين – الإسرائيليين – في فلسطين هي أصل الحضارة في العالم وجاء كتاب «فجر الضمير» الذي ألفه عالم أميركي – وليس عالماً مصرياً يحب بلده – ليؤكد أن التقدم الحضاري في المجالات التي تحيط فلسطين تعود إلى زمن بعيد بدأ مع الفراعنة.
ويرى المؤلف أن نهوض الإنسان إلى المثل الاجتماعية قد حدث قبل أن يبدأ ما يسميه رجال اللاهوت بعصر الوحي بزمن طويل «ويقول المؤلف إن ذلك النهوض الحضاري في وادي النيل يرجع قبل «عصر وحي رجال اللاهوت» بألفي سنة على الأقل. ذلك لأن النيل هو النهر الوحيد على الكرة الأرضية الذي ينبع من المناطق الحارة وينساب نحو الشمال في المنطقة المعتدلة التي ظهرت فيها أول النظم القومية المستقرة».
والدلائل كلها تقول إن المصريين القدماء الذين عاشوا في عصر ما قبل التاريخ كانوا أقدم مجتمع استطاع أن يوفر لنفسه غذاءً ثابتاً سواء من نبات الأرض أو مما عليها من حيوان استطاع أن يستأنسه، كذلك استطاع المصريون القدماء منذ عصر مينا موحد الشمال والجنوب – أن يؤسسوا حكومة مركزية قوية.
ويرى بريستيد أن الحضارة البابلية في العراق تزامنت في وقت متأخر نسبياً مع الحضارة المصرية القديمة. وكان ذلك قبل ظهور العبرانيين، بل إن المؤلف يرى أن الحضارة المصرية والحضارة البابلية قد أسهمت في تطوير حضارة العبرانيين.
ويقول بريستيد إنه يجب علينا أن نمهد أذهاننا إلى قبول الحقيقة القائلة إن الإرث الخلقي الذي ورثه المجتمع المتمدين الحديث يرجع أصله إلى زمن أقدم بكثير جداً من زمن استيطان العبرانيين فلسطين، وإن ذلك الإرث قد وصل إلينا من عهد لم يكن فيه الأدب العبراني المدون في التوراة قد وجد بعد.
كذلك من المسائل المهمة في كتاب «فجر الضمير» أن القوة المادية كانت هي العامل الحاسم في قيام الدول القديمة المتتابعة – والتي تسمى عادة الأسر – وكان الملك الأقوى أو الدولة – الأسرة – الأقوى هي التي تسود بحكم قوتها الدويلات الأخرى.
ومن المرجح تاريخياً أن «هليوبوليس» التي كان أصل اسمها «إيون» هي التي قامت بإخضاع الوحدات الأخرى تحت حكم ملك واحد وأغلب الظن أن ذلك كان قبل سنة 4000 قبل الميلاد.
وفي تلك الفترة – أي فترة هليوبوليس- بدأت تظهر تباشير القانون الأخلاقي. وبدأت تظهر أيضاً أن الموت ليس هو نهاية النهايات وأن هناك حياة بعد الموت وأن هناك ثواباً وعقاباً. وهذا ما يدل عليه بشكل واضح بناء الأهرام والنقوش التي اكتشفت بداخله أو بالقرب منه.
ويقول بريستيد إن المصادر القديمة التي حققها ووصل إليها تدل على أن الوازع الخلقي – الضمير – قد شعر به المصريون القدماء قبل أن يوجد هذا الشعور في أي مكان آخر في العالم القديم.