خضعت إدارة أوباما، طيلة السنوات السبع الماضية، لضغوطٍ داخلية أميركية من أجل سياسةٍ أكثر تصلّباً مع إيران، ومن أجل التراجع عن أسلوب التفاوض معها، وبهدف عدم تحقيق الاتفاق مع طهران بشأن ملفّها النووي.
وقد عملت فعلاً إدارة بوش الابن، وما كان فيها من تيّار أيديولوجي محافظ ومدعوم إسرائيلياً، على محاولة تغيير أنظمة في بلدان عربية وبالعالم الإسلامي (كما فعلت في أفغانستان، ثمّ في العراق)، لكن هذه السياسة الأميركية في «الشرق الأوسط» فشلت وأدّت إلى نتائج معاكسة أضرّت بالمصالح الأميركية..
وسبّبت هزيمةً سياسية لأصحابها أنفسهم داخل الولايات المتحدة، فجاءت إدارة أوباما تحت هدفٍ معلَن هو وقف الحروب الأميركية الانفرادية، والدعوة إلى التفاوض والعمل الدبلوماسي لحلّ أزمات واشنطن مع الدول الأخرى، وفي مقدّمتها إيران.
طبعاً السياسة الخارجية الأميركية ليست «قضاءً وقدراً»، وهي تشهد تقلباتٍ كثيرة وتغييراتٍ في الأساليب معتمدةً على نهجٍ «براغماتي»، لكن هدفها ما زال هو بقاء الولايات المتحدة القوّة الأعظم في العالم. وما فشل في ظلّ إدارة «جمهورية» سابقة من أسلوب الغطرسة العسكرية، تمّت الاستعاضة عنه في ظلّ إدارة «ديمقراطية» بما اصْطُلِح على تسميته ب«القوّة الناعمة»، وهو المصطلح الذي رافق مجيء أوباما للبيت الأبيض.
وهناك بتقديري فارقٌ كبير بين مقولة تتردّد الآن كثيراً عن «انحسار الدور الأميركي في العالم»، وبين عدم نجاح واشنطن في السنوات الماضية بتحقيق كل ما كانت تريده أو ما خطّطت له من مشاريع. وهذا ينطبق على حربيها في العراق وأفغانستان، وعلى «مشروع الشرق الأوسط الكبير»، وعلى الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2006..
وعلى ما حدث ويحدث في سوريا، وعلى المراهنة على حكم «الأخوان المسلمين» في بعض دول المنطقة العربية. ففي هذه الحروب والقضايا فشلت واشنطن في تحقيق كل ما تريده، لكنّها حتماً استطاعت استنزاف خصومها وجعلهم في موقع المدافع عن وجودهم بعدما نجحت واشنطن جزئياً في تحجيم دورهم. فالولايات المتحدة لم تكسب حتماً معارك اقتلاع وجود أخصامها، لكنّها نجحت طبعاً في تحجيم نفوذهم وفي مدّ تأثيراتها على مناطق لم تكن محسوبة لها.
إنّ محاولات التحجيم الأميركي لروسيا هي متعدّدة رغم حرص واشنطن على عدم حدوث تصادم عسكري مع القوّة العسكرية الروسية، التي هي الثانية عالمياً بعد الولايات المتحدة، وتملك صواريخ نووية عابرة للقارات، ولم تصطدم معها أميركا في أسوأ ظروف «الحرب الباردة»، حيث حرصت موسكو وواشنطن (كما تحرصان الآن) على إبقاء الصراعات بينهما في ساحات الآخرين..
ومن خلال الحروب بالوكالة عنهما وليس بالأصالة منهما. ولعلّ الأزمة الأوكرانية، وقبلها جورجيا، ومعها الآن سوريا، لأمثلة عن كيفية سعي واشنطن لتحجيم النفوذ الروسي العالمي، وعن مشاركة الولايات المتحدة لروسيا في مناطق كانت محسوبةً كلّياً لموسكو. فالبعض يتصوّر الآن أنّ موسكو تتقدّم على حساب واشنطن في المسألتين السورية والأوكرانية..
بينما واقع الحال هو أنّ واشنطن ومعها «الناتو» قد وصلا إلى أماكن إستراتيجية مهمّة لموسكو كأوكرانيا وسوريا، وهي أماكن كانت حصراً على النفوذ الروسي، وها هي الآن الطائرات الأميركية تحلّق في السماء السورية، ووحدات عسكرية أميركية خاصّة تتواجد بالقرب من القاعدة الروسية في منطقة اللاذقية السورية.
فصحيح أنّ الولايات المتحدة قد فشلت في تحقيق الكثير من أهدافها ومشاريعها في حروب وصراعات مختلفة حدثت منذ مطلع هذا القرن، وصحيحٌ أيضاً أنّ هناك سعياً روسياً وصينياً دؤوباً لتكريس نظام متعدّد الأقطاب في العالم، وصحيحٌ كذلك أنّ عدّة دول في قارات العالم تحبّذ الآن حصول تعدّدية قطبية، لكن النفوذ الأميركي لم ينحسر فعلاً، وأميركا لا تتصرّف عملياً على أساس وجود تعدّدية قطبية في العالم.
العالم الآن يشهد فعلاً متغيراتٍ دولية وانتقالاً من عصر الإمبراطورية الأميركية التي قادت العالم إلى عصر جديد لم تتّضح بعدُ معالمه النهائية، كما يشهد العالم انتقال موسكو من موقع «العدوّ» لواشنطن (كما كان الأمر إبّان الحرب الباردة) إلى حال «الخصم» و«الشريك» معاً لواشنطن في التعامل مع أزماتٍ دولية وفي بناء نظامٍ دولي جديد.
الملاحظ أيضاً، في حقبة التحوّلات الدولية والإقليمية الحاصلة، أنّ المجمع عليه تقريباً في منطقة «الشرق الأوسط»، هو الغضب المشترك على السياسة الأميركية، وكأنّ واشنطن تخسر أصدقاء قبل أن تكسب الخصوم!. والأمثلة على ذلك عديدة نجدها الآن في الملفّات الإيرانية والسورية والفلسطينية، وفي كيفية المواجهة مع الجماعات الإرهابية، وفي تداعيات المتغيّرات السياسية التي حدثت بعد ثورات «الشارع العربي».
لكن حال السياسة الأميركية في «الشرق الأوسط» بعد توقيع الاتفاق الدولي مع إيران سيكون كما هو في «الشرق الآسيوي»، حيث تحرص واشنطن على علاقاتٍ جيدة لها مع كلٍّ من الهند وباكستان رغم ما كان بينهما من أزماتٍ وحروب، وكما هي أيضاً سياسة التوازنات التي تتّبعها واشنطن مع كلٍّ من اليابان والصين.
فالسياسة الخارجية الأميركية تتميّز في مجال العلاقات مع الدول والجماعات بالحرص على اعتماد التوازن بين «الأضداد» في البلد نفسه، أو في الإقليم الجغرافي المشترك. فمع هذا الأسلوب، يمكن للولايات المتحدة أن تستفيد من حاجة كلّ طرفٍ لدعمٍ أميركي ضدّ الآخر..
ومن التنافس الذي يحصل بين الأطراف المتناقضة على خدمة المصالح الأميركية. أيضاً، فإنّ هذه السياسة تسمح لواشنطن بتهديد طرفٍ ما أو الضغط عليه من خلال الطرف المحلّي أو الإقليمي الآخر دون الحاجة لتورّط أميركي مباشر.
وربّما سنشهد قريباً حالةً مشابهة من «التوازنات الأميركية» في منطقة الخليج العربي، بحيث تعزّز واشنطن علاقاتها العسكرية والأمنية مع دول «مجلس التعاون» ومع العراق، في الوقت نفسه الذي تتحسّن فيه العلاقات الأميركية/الإيرانية، إضافةً إلى استمرار تركيا في عضوية «حلف الناتو»، رغم ما بين هذه الدول في هذا الإقليم الجغرافي من تباينات وصراعات أحياناً.