ملف الفساد لا تكاد تخلو منه أي دولة من الدول، يُعد من أكثر الملفات الشائكة شديدة الحساسية، نظراً لاتساع وتشعب تعريفاته..
والزوايا التي يتم تناوله من خلالها، فهناك فساد سياسي، يُقاس بمدى عقلانية السياسات العامة وتفضيلاتها واختياراتها في توزيع وتوظيف الموارد والطاقات البشرية، ضماناً لعدم إهدارها تحقيقاً للصالح العام، وبعدم هيمنة السلطة التنفيذية على ما عداها من السلطات..
وبضمان وحماية الحريات المدنية، خاصة في مجال الصحافة والإعلام والتعبير عن الرأي عموماً، وكذلك بعدم التدخل في الانتخابات. وفساد إداري، يختص بالجهاز البيروقراطي للدولة، ودرجة خضوعه للضوابط والأدوات الرقابية. وفساد اقتصادي، قد يتعلق بالقطاع العام أو الخاص، أو بكليهما معاً، بحيث تنشأ شبكة معقدة من تبادل المصالح والمنافع.
وفساد قانوني، حال تضارب القوانين وتناقضها، سواء في ما بينها أو بينها وبين مواد الدستور، وكذلك عدم تطبيق القانون أو الانتقائية في تنفيذه. ونوع آخر من الفساد يرتبط بكيفية إدارة الأموال والصناديق الخاصة، إذا ما كانت هناك قروض أو مساعدات أو هبات خارجية.
لهذه الأسباب، ولتنوع أنماط الفساد، فلم يعد يقتصر على منطقة أو دول بعينها، إذ يشمل الدول النامية والمتقدمة أيضاً. فأميركا على سبيل المثال..
وهي أكبر الدول الرأسمالية وأكثرها تقدماً، تعرف أنواعاً من الفساد، بعضها يتعلق بالصفقات الخارجية لشركاتها العملاقة، واستخدامها أحياناً لوسائل غير مشروعة، كالرشاوى، لتمريرها والفوز بها، وأخرى بأساليب تمويل حملاتها الانتخابية التي تسيطر عليها جماعات الضغط والدوائر شديدة الثراء.
ونفس الشيء يحدث في أوروبا، بل وفي كبريات الدول منها، كبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وهناك العديد من قضايا الفساد التي طالت أرفع المسؤولين الحكوميين، كرئيس الوزراء الإيطالي السابق برلسكوني، أو حتى ساركوزي رئيس الجمهورية الفرنسي السابق، اللذين خضعا بالفعل للمساءلات القانونية والقضائية.
ومن ناحية أخرى، فقد اقترنت كثير من التجارب التنموية الناجحة باستشراء الفساد المالي والإداري والسياسي في مراحلها الأولى، ونموذج سنغافورة هو مثال واضح في هذا السياق، حيث صُنفت في الستينيات كواحدة من أسوأ الدول فساداً، قبل أن تحتل اليوم مركزاً متقدماً بين الدول الأقل فساداً، وتُصبح من أهم المراكز المالية والاقتصادية في العالم.
وعادة ما يزداد الفساد في المراحل الانتقالية التي تمر بها العديد من الدول، كالانتقال من الاشتراكية إلى السوق الحر، أو من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، وهو ما شهدته روسيا في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، ومعها معظم، إن لم يكن كل، دول أوروبا الشرقية التي كانت خاضعه له، وهو ما ينطبق أيضاً على دول أميركا اللاتينية، وعلى الدول الشرق أوسطية والعربية.
لذلك، فإن عمل المنظمات الدولية المنوط بها مراقبة أو تقييم الفساد في العالم، كمنظمة الشفافية العالمية، تعتمد معيار «الأقل» أو «الأكثر» فساداً، إقراراً بوجوده تقريباً في كافة الدول. ولكن لا يعني هذا أن يتساوى الجميع، فيظل هناك فارق جوهري بين الدول المتقدمة، مقارنة بغيرها في النسبة والدرجة والمساحة التي يحتلها الفساد، سواء على المستوى الرسمي أو ما دونه،..
فضلاً عن أسلوب مواجهته أولاً بأول، وبأدوات قانونية رادعة، على قاعدة من المساواة لا تميز بين مسؤول مهما علا قدره، أو مواطن عادي، مثلما تكون وسائل إعلامها الداخلية هي الأسبق في الكشف عنه
إذن القياس هنا مع الفارق، ولكن يبقى المعني المهم المستخلص في هذا الإطار، مرتبطاً بقدرة الدول وشجاعتها في الاعتراف بالفساد، كخطوة أولى ضرورية للتصدي له.
والسؤال هو، لماذا بدأت هذه القضية تحظى بهذا الاهتمام الفائق في الدول النامية، وتشغل حيزاً كبيراً من النقاش العام؟ الإجابة ببساطة، هي تعرضها لكثير من الاضطرابات وتعثرها في مشاريعها التنموية، بحيث تعجز عن تحقيق درجة الرضاء الاجتماعي لمواطنيها، وهو الشرط اللازم للاستقرار السياسي،..
فضلاً عن تضمين أغلب الجهات المانحة للقروض (مثل البنك وصندوق النقد الدوليين)، أو تلك التي تقدم المساعدات والمنح أو الاستثمارات، لشرط مكافحة الفساد بعد تحديد نسبته لاستمرارها في تقديم الدعم لأي من تلك الدول، وتجدر الإشارة هنا إلى عدد من الملاحظات، أولاً، إن قياس درجة الفساد لا تُختزل في مجرد أرقام يُختلف عليها،..
فقد تصح أو تخطئ، أو يتم التهويل أو التهوين منها، لأنها في النهاية لن تُؤخذ إلا كمؤشر على وجود فساد مؤكد.
ثانياً، إن معظم تلك الجهات الدولية لا تعتمد فقط على التقارير والأجهزة الرقابية المحلية، وإنما تكون لديها قنواتها ومقاييسها الخاصة التي تُقيم من خلالها حالة الفساد في الدولة المعنية من منظور كلي، يأخذ في الاعتبار كافة الجوانب أو الأنماط المشار إليها سابقاً، بما يتجاوز التقارير الفنية أو المالية.
ثالثاً، إن أكثر ما تعاني منه الدول في مثل هذه القضية الشائكة المتعلقة بمواجهة الفساد، هو غياب المعايير الواضحة التي يمكن التوافق عليها لقياسه، سواء طبقنا المعايير الدولية، أو كانت قواعد خاصة، لأن أحد الأسباب الرئيسة التي أدت إلى أزمة «الأرقام» ارتبطت بهذا العامل تحديداً، الذي تسبب في كثير من الخلافات، وأدى تلقائياً إلى الانقسام حول النتائج.