كثيرة هي الكتابات التي تتناول أداء الحكومات بالنقد باعتبارها مسؤولة عن تدهور الخدمات العامة، من نقل ومواصلات ورصف طرق ومرور ونظافة وتعليم وصحة، فضلاً عن تدني الأجور وانخفاض مستويات المعيشة بشكل عام.

وحول هذه الإشكالية صدر حديثاً في الولايات المتحدة كتاب بعنوان «لماذا تفشل الأمم: جذور السلطة والرفاهية والفقر» لباحثين أميركيين وحظي باهتمام لافت في الدوائر البحثية والإعلامية هناك، لكونه من الأعمال الضخمة التي تبحث في أصول تقدم وتخلف المجتمعات وأسباب ازدهار بعضها مقابل فقر بعضها الآخر..

وربما الجديد في هذا الكتاب هو كم النماذج التطبيقية والمقارنات المستفيضة التي يعقدها بين حالات متباينة من الدول على مستوى العالم ككل.

أما الفرضية الأساسية فيه فتبتعد عن العوامل التقليدية التي كانت تُعتبر محددة لمصير الشعوب كالموقع الجغرافي والتاريخ وحجم الموارد الطبيعية من حيث الندرة أو الوفرة، معطياً لتفضيلات الدولة ومحورية دورها وأسلوب الإدارة الاعتبار الأول ..

وكذلك للمؤسسات السياسية (أي دوائر صناعة القرار) التي تسبق في أهميتها المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية ويصنفها من حيث القدرة على النهوض والتنمية كمؤسسات إما حاضنة فتحقق الهدف أو إقصائية أي تحيد عنه.

ويُلخص معادلة النجاح في الحرية والمؤسسية وسيادة القانون (الديمقراطية مقابل الاستبداد، الاقتصاد الحر مقابل المركزي، الليبرالية الثقافية في مواجهة التعصب، الشفافية والمحاسبة كنقيض للفساد والترهل البيروقراطي) والنماذج هنا بالعشرات، أوروبا الغربية مقارنة بالشرقية، ألمانيا الغربية بمثيلاتها الشرقية قبل الوحدة، الكوريتان الجنوبية والشمالية، جنوب أفريقيا في مقابلة الصومال وغيرها، ففي الحالات الأولى حدث الانطلاق بعكس الحالات الثانية.

وبنفس المنطق يتعرض الكتاب للأثر السلبي للإمبراطوريات القديمة على الدول التي خضعت لها، كالإسبانية على دول أميركا الوسطى والجنوبية، والعثمانية على أغلب بلدان الشرق الوسط، وأيضاً الاستعمار الغربي بامتداداته المعروفة، وفي كل هذه الحالات حرص المُستعمر على إبقاء مستعمراته على حالها من الجمود والتخلف ولم ينقل تجربته أو مؤسساته إليها..

وعلى هذا المنوال يأتي استعراض تاريخ الثورات الإنسانية الكبرى، الانجليزية والفرنسية والأميركية (وما صاحبها بعد ذلك من ثورات بالمعنى المجازي، صناعية وتكنولوجية ومعلوماتية) والتغييرات الهائلة التي أحدثتها على مستوى العالم..

مقابل الثورة البلشفية في روسيا التي أصّلت لتجربة مناقضة انتهت بانهيار الاتحاد السوفييتي الذي قام في أعقابها، وصولاً إلى ثورات الربيع العربي، التي وإن عبرت عن صرخات غضب مشروعة ضد الظلم والفساد إلا أنها لم تحمل مشروعاً بديلاً يؤسس للنهضة.

وإذا أضفنا من عندنا بعض النماذج من العالم الإسلامي كماليزيا وإندونيسيا، اللتان احتلتا موقعاً متقدماً على مستوى الاقتصاد العالمي والتجارب التنموية الناجحة، سنجد أن عوامل هذا النجاح لم تخرج عن المعادلة السابقة سواء على مستوى الحكم أو الإدارة أو الأخذ بالأساليب العلمية الحديثة، أي لم تعتمدا نموذجاً خاصاً يمكن تسميته بالنموذج الإسلامي..

ولم تدعيا خصوصية تخرجهما عن السياق المعاصر السائد في الدول المتقدمة، مثلما لم تستغرقهما نزاعات حول الهوية الدينية والثقافية فهناك فقط هوية وطنية. ففي ماليزيا تتعايش مختلف الأعراق والديانات..

وفي إندونيسيا مازالت الأحزاب المدنية تحقق فوزاً متتالياً في الانتخابات رغم كثرة عدد الأحزاب الدينية. باختصار، إن أسباب النجاح والفشل باتت معروفة ولا تحتاج إلى اختراع، وإنما إلى رؤية واضحة وإرادة سياسية ومصارحة وجرأة وحسم في التنفيذ، وهو ما ينطبق على الكثير من دولنا العربية لأنها ليست استثناء ضمن تجارب العالم.

أما وإن بقينا على هذه الحال من المراوحة الدائمة بين نقيضين (اشتراكية أم رأسمالية، قطاع عام أم خاص، دعم أو لا دعم، تقليدية أم حداثة) دون اختيار لأي طريق منهما حتى ولو مضينا فيه بخطى تدريجية، فالمؤكد أننا سنظل ندور في حلقة مفرغة ولن نتقدم خطوة واحدة، وستظل بيانات الحكومات مجرد بيانات رقمية تصيب الناس بالملل ولا تقدم مخرجاً من أزماتنا المزمنة ولن يختلف الأمر مهما تغيرت الحكومات والأشخاص.