الحديث المطول الذي أدلى به الرئيس الأميركي باراك أوباما مؤخراً لجيفرى جولدبيرج ونُشر بمجلة «ذى أتلانتك» بتاريخ 10 مارس، تحت عنوان «مذهب أوباما»، هو الأجرأ منذ وصوله إلى رئاسة البيت الأبيض، وربما الفريد فى نوعه أيضا.
نص المقابلة يقع في 36 صفحة، بينما اتخذ هذه المساحة الواسعة في التغطية (87 صفحة) بعد إضافة أغلب لقاءاته ومقابلاته وحواراته في الداخل الأميركي وخارجه، ليخرج بصورة تعبر عن رؤية متكاملة لسياسته الخارجية وخبرته التي اكتسبها خلال سنوات حكمه، أسوة برؤساء أميركا السابقين من الجمهوريين والديمقراطيين على السواء، الذين ارتبطت سياستهم الخارجية بأسمائهم، بدءاً من مبدأ مونرو وويلسون وأيزنهاور، إلى نيكسون وكارتر وريغان.
وصولا إلى جورج بوش الأب والابن، حتى صار تقليداً متبعاً بحيث يكون كل مبدأ أو مذهب بمثابة مرجعية فكرية وسياسية يُسترشد بها، ويُؤخذ منها أو يضاف إليها، أو يتغير منها أجزاء، وفقاً للظروف والتحديات وطبيعة الدور الذي تريد الولايات المتحدة أن تلعبه على مستوى العالم وهو بحكم التعريف متغير أيضاً.
وجميع هذه المذاهب باختصار تحمل ملامح من النزعتين الرئيسيتين المحددتين للسياسة الأميركية، أي المثالية والواقعية. د إذن، لم يتخطَ أوباما القاعدة الثابتة، ولكن اللغة التي تحدث بها وأسلوب تقييمه لحلفائه وأصدقائه- وليس أعدائه وخصومه- هو الأمر اللافت هذه المرة بل والجديد تماماً. فماذا قال؟
في البداية، وجّه اللوم لأقرب حلفائه، الدول الأوروبية وخص منها بريطانيا وفرنسا، اللتان أحبطتاه في أزمة ليبيا، وهما الأقرب إليها جغرافياً، حتى أصبحت ساحة للفوضى. وكيف ضغط على رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون لزيادة نسبة إنفاقه العسكري كي يوفي بالتزاماته في العمليات الخارجية.
ولأول مرة، ينتقد أوباما صراحة رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو على عجرفته السياسية، واعتقاده بأنه الأجدر على فهم المنطقة من أعلى مسؤول أميركي، فضلا عن تعطيله لحل الدولتين (فلسطينية وإسرائيلية) وفقاً لمبادرة سلفه بوش الابن.
قال أيضا عن رجب طيب أردوغان، رئيس تركيا زعيم حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم وشريكه في حلف الناتو، إنه كان يتوقع منه أن يكون جسرا بين الشرق والغرب وأن يقدم نموذجاً يُحتذى، ولكنه خيب توقعاته مثلما أخلفها في تحركاته الإقليمية خاصة ما يتعلق بالملف السوري.
وبنفس المنطق، انتقد بشدة تيارات الإسلام السياسي (ربما قصد جماعة الإخوان المسلمين تحديدا) على إخفاقها في قيادة حركة إصلاح شاملة في أفكارها وأيديولوجياتها، لتتواءم مع قيم الديمقراطية والحداثة، مثلما حدث تاريخياً في المسيحية وغيّرها عن صورتها الأولى للعصور الوسطى، وأنه لا حل جذري للإرهاب ما لم تكن هناك في الأساس معركة فكرية ضد التطرف في العالم الإسلامي.
كذلك، صرح بفشله هو شخصياً في نشر الحرية والديمقراطية في الشرق الأوسط بعد خطابه الشهير بالجامعة الأميركية في القاهرة (2009)، لأن أغلب دوله لا تعرف سوى القليل من الحياة المدنية الحديثة، بحيث لم تُخلف ثورات الربيع العربي إلا الصراعات.
بالقطع، ما لم يقله أوباما هو مسؤولية السياسة الأميركية عما آلت إليه الأوضاع، وعن نمط اختياراتها وتحالفاتها في الماضي، التي أسهمت بقوة في تشكيل الحاضر الذي يتذمر منه.
ولكن بغض النظر عن هذه الحقيقة، تبقى ملاحظة أساسية على الحديث نفسه، وهي أنه أعلن عن «مذهبة» في نهاية ولايته وليس بدايتها كما هو معتاد، وهو ما يعني أن هذه التصورات هي ما يريد أن يتركها لمن سيأتي بعده، لكي تشكل الخطوط العريضة للاستراتيجية الأميركية مستقبلا. ومن هنا فليس من المتوقع أن تحدث الآن- أي في الفترة المتبقية من رئاسته- انقلابات جذرية في توجهات سياسته العامة.
إن ما فعله أوباما لم يكن أكثر من إخراج ما يقال في الغرف المغلقة إلى العلن، ليس كنوع من الرفاهية الفكرية، وإنما لتوجيه رسائل محددة لأطراف بعينها تكشف لها كيف ينظر إليها الجالس في البيت الأبيض بعيداً عن الدبلوماسية، وبالتالي سيكون على تلك الأطراف بدورها إعادة رسم سياساتها تحسباً لما قد يتغير.