إن أكثر الظواهر انتشاراً في عالمنا الإسلامي التي نعايشها بشكل شبه يومي هي ظاهرة الفتاوى التي تصدر من غير أهلها من الفقهاء المعترف لهم بالفتوى، والتي بات من الصعب إن لم يكن من المستحيل عدها أو حصرها، ومعها أصبح كل من يحملون ألقاب داعية أو مرجع يتصدرون الفضائيات ووسائل الإعلام المختلفة باعتبارهم «نجوم» المرحلة، يتحكمون في مصائر الناس من خلال فتاويهم، هم ببساطة يتحركون في فضاء واسع دون رادع وفي غيبة من القانون أو الضوابط العامة التي تحكم أي دولة أو مجتمع.

ولخطورة هذه الظاهرة ولأنها أيضاً في تزايد مستمر فقد وصفها أخيراً مفتي مصر السابق الدكتور علي جمعة بأنها ظاهرة «مرضية»، مقارناً بين عدد الفتاوى التي صدرت في عهد الشيخ محمد عبده عندما كان مفتياً للديار (1899-1905) أي خلال ست سنوات وكانت 944 فتوى بمثيلاتها في عهده عندما شغل المنصب نفسه لمدة عشر سنوات والتي اقتربت من الـ3 ملايين فتوى، وهو أمر يفوق أي جهد بشري مهما بلغت درجة الاجتهاد، لذا ناشد الناس بعدم الإفراط في اللجوء إلى الفتاوى حتى تمضي الحياة الطبيعية.

بعبارة أخرى، إن الظاهرة التي أتحدث عنها هنا تتجاوز فتاوى التكفير والتطرف التي تلجأ إليها التنظيمات المسلحة مثل داعش ومن قبله القاعدة، والتي تبرر بها الأعمال اللا إنسانية واللا أخلاقية التي تقوم بها من قتل وذبح ورجم وحرق وسبي للنساء واستحلال أعراض وأموال وممتلكات الغير، مما اعتدنا مشاهدته صوت وصورة كأفلام الرعب «الهوليوودية» مع فارق وحيد وهو أنها تعبر عن حقيقة مؤلمة وليست من خيال مُبدعي الخدع السينمائية.

لكن هذا الجانب الفج للظاهرة على فظاعته كان من الممكن حصاره، لأنه في النهاية مرتبط بتنظيمات بعينها، أما تشعبها وامتدادها لتشمل كل أوجه الحياة تقريباً فهو مما يصعب محاصرته والتصدي له، وهذا هو واقع الحال اليوم.

فهناك فتاوى سياسية واقتصادية واجتماعية، تفتي في شؤون الأحزاب والبرلمان والانتخابات ووضع المرأة والأقليات وحقوق الإنسان والحريات المدنية والعامة، وفي الطب والتعليم، وفي تحريم مهن معينة وإجازة أخرى، فتاوى في كل شيء وأي شيء.

وتقابلها أخرى تتعلق بالحياة الشخصية للأفراد تشمل كل صغيرة وكبيرة في حياتهم، فكل خطوة تكون بفتوى تُراكم الخوف وتُعطل التفكير وتخلق حالة من التواكل في أغلب الأحيان.

ونوع ثالث من الفتاوى يندرج تحت قائمة الآراء الأكثر غرابة وشططاً تتحدى أي منطق أو حس إنساني سليم، وهي بالمناسبة الأكثر شهرة (مثل تحريم بعض الألعاب الرياضية، أو مشاهدة الرسوم المتحركة، والدعوة لهدم الآثار الفرعونية خاصة التماثيل لعدها أصناماً) وغيرها بالعشرات من النماذج المماثلة، التي لا جدوى منها سوى تشويه صورة الإسلام والمسلمين ووضعهم خارج السياق الزمني المعاصر بل وخارج التاريخ والحضارة عموماً.

إن مثل هذه الفتاوى باتت مثاراً للتندر والسخرية ليس فقط على الساحة المحلية بل العالمية أيضاً، وتكفي متابعة التقارير والمقالات المنشورة في كبريات الصحف ووسائل الإعلام الغربية والأميركية، حول تلك الفتاوى تحديداً، منها ما نُشر في «الفورين بوليسي».

وأيضاً في «الواشنطن بوست» حول تحريم بعض الجماعات الجهادية لأكل الكرواسون باعتباره رمزاً للاستعمار الغربي، تدليلاً على حال التخلف والجمود الذي تعاني منه المجتمعات الإسلامية. ومهما بُذل من جهد وأموال لتحسين صورة الإسلام في الغرب فلن تُجدي طالما استمر إصدار مثل هذه الفتاوى.

إن جانباً كبيراً من المشكلة يأتي من حالة الفوضى في هذه الدائرة شديدة الاتساع، رغم أن شرط التأهيل للإفتاء ليس متوفراً، أي هي فتاوى من دون ترخيص ولكنها تنتشر بسرعة البرق في المجتمع، والمؤكد أيضاً أنها تُستخدم كأداة أو جزء من الصراع السياسي على السلطة.

إن مواجهة تلك الظاهرة الخطيرة التي تتسلط على عقول الناس خاصة البسطاء منهم لا تتحمل الإبطاء لأن الفتوى وإن لم تكن ملزمة فإن لها سلطة معنوية لا يمكن إغفالها. وليس أقل من أن يصدر قانون يُنظم هذه العملية ويُقصرها على جهة الاختصاص.