للإنسان، الفرد أو الجماعة، هويّاتٌ متــــعدّدة، لكن الهويّات ليست كأشكال الخطوط المستقيمة التي تتوازى مع بعضها البعض فلا تتفاعل أو تتلاقى، أو التي تفرض الاختيار فيما بينها، بل هذه الهويّات المتــــعدّدة هي كرسوم الدوائر التي يُحيط أكبرها بأصغرها، والتي فـــــيها (أي الدوائر) «نقطة مركزية» هي الإنسان الفرد أو الجماعة البشرية. هكذا هو كلّ إنسان، حيث مجموعةٌ من الدوائر تُحـــــيط به من لحظة الولادة، فيبدأ باكتشافها والتفاعل معها خلال مراحل نموّه وتطوّره: من خصوصية الأم إلى عمومية الإنسانية جمعاء.
مشكلتنا نحن العرب أنّنا نعاني، لحوالي قرنٍ من الزمن، من صراعاتٍ بين هُويّاتٍ مختلفة، ومن عدم وضوح أو فهم للعلاقة بين هذه الهويّات المتعدّدة أصلاً. فقد تميّز النصف الثاني من القرن العشرين بطروحاتٍ فكرية، وبحركات سياسية ساهم بعضها أحياناً بتعزيز المفاهيم الخاطئة عن ثلاثية (الوطنية والعروبة والدين)، فهويّة شعوب البلدان العربية هي مزيجٌ مركّب من هويّة (قانونية وطنية) نتجت عن ولادة الأوطان العربية في مطلع القرن العشرين، وهويّة (ثقافية عربية) عمرها من عمر اللغة العربية، وهويّة (حضارية دينية) مرجعها ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم، وأيضاً بحكم أنّ الأرض العربية هي مهبط كلّ الرسل والرسالات السماوية. وهذا واقع حال ملزِم لكل شعوب البلدان العربية.
الآن نجد على امتداد الأرض العربية محاولاتٍ مختلفة الأوجه، ومتعدّدة المصادر والأساليب، لتشويه معنى الهويّة العربية. حيث المحصّلة هي القناعة بأنّ حلاً لهذه المشكلة يقتضي «حلولاً» انفصالية كالتي حدثت في جنوب السودان وفي شمال العراق، وكالتي يتمّ الآن الحديث عنها لمستقبل عدّة بلدانٍ عربية، بينما أساس مشكلة غياب «حقوق بعض المواطنين» هو غياب الفهم الصحيح والممارسة السليمة لمفهوم «المواطنة»، وليس قضية «الهويّة».
وعجباً، كيف تُمارس الإدارات الأميركية نهجاً متناقضاً في المنطقة العربية مع ما هي عليه من تاريخٍ وثقافة، وكيف تُشجّع على تقسيم الشعوب والأوطان وعلى إضعاف الهويّة العربية عموماً!!.
ففي الولايات المتحدة نجد اعتزازاً كبيراً لدى عموم الأميركيين بهويّتهم الوطنية الأميركية (وهي هُويّة حديثة تاريخياً)، رغم التباين الحاصل في المجتمع الأميركي بين فئاته المتعدّدة القائمة على أصول عرقية وإثنية ودينـــية وثقافية مختلفة.
فمشكلة الأقلّيات الإثنية والعرقية والدينية موجودة في أميركا لكنّها تُعالج بأطر دستورية وبتطويرٍ للدستور الأميركي، كما حدث أكثر من مرّة في مسائل تخصّ مشاكل الأقلّيات، ولم يكن «الحل الأميركي» لمشاكل أميركا بالتخلّي عن الهويّة الأميركية المشتركة، ولا أيضاً بقبول النزعات الانفصالية أو بتفتيت «الولايات المتحدة».
كما يثير التساؤل أيضاً خروج بعض الأصوات العربية المقيمة في أميركا والغرب، والتي تُساهم في هذه الحملة المقصودة ضدّ الهويّة العربية، أو تؤيّد الآن حركات الانفصال والتقسيم، وهي تُدرك ما أشرت إليه عن خلاصات التجربة الدستورية الأميركية، إضافةً إلى تجارب دستورية أوروبية مشابهة تسعى للاتّحاد والتكامل بين «أمم أوروربية» قائمة على ثقافات ولغات وأديان وأصول عرقية مختلفة.
أيضاً، نجد في داخل بعض الأوطان العربية أنّ ضعف الولاء الوطني لدى بعض الناس يجعلهم يبحثون عن أطر فئوية بديلة عن مفهوم المواطنة الواحدة المشتركة، وربّما يمارسون استخدام العنف ضدّ «الآخر» في الوطن نفسه من أجل تحصيل «الحقوق».
إنّ الفهم الصحيح والممارسة السليمة لكلٍّ من «ثلاثيات الهويّة» في المنطقة العربية (الوطنية والعروبة والدين) هو الحلُّ المطلوب في أرجاء الأمَّة العربية. وهذا «الحل» يتطلّب أولاً نبذاً لأسلوب العنف بين أبناء المجتمع الواحد مهما كانت الظروف والأسباب، وما يستدعيه ذلك من توفّر أجواء سليمة للحوار الوطني الداخلي، وللتنسيق والتضامن المنشود مستقبلاً بين الدول العربية.
إنّ ضّعف الولاء الوطني يُصحَّح دستورياً وعملياً من خلال المساواة بين المواطنين في الحقوق السّياسية والاجتماعيّة، وبالمساواة أمام القانون في المجتمع الواحد، وبوجود دستور يحترم الخصوصيات المكوّنة للمجتمع.
كذلك هو الأمر بالنّسبة للهويّة العربية، فالعروبة هي هويّة ثقافية جامعة لا تقوم على فكر محدّد، ولا على أسس عنصرية وإثنية ودينية، ولا تتحمّل نتائج ممارسات نظام أو حزب سياسي، وهي تستوجب تنسيقاً وتضامناً وتكاملاً بين العرب يوحّد طاقاتهم ويصون أوطانهم ومجتمعاتهم.
ما حدث ويحدث في العقود الأربعة الماضية (منذ منتصف عقد سبعينات القرن الماضي) يؤكّد الهدف الأجنبي بنزع الهويَّة العربية، عبر استبدالها بهويّة «شرق أوسطية»، من أجل تسهيل السيطرة على الأوطان العربية وثرواتها.
إنّ دائرة «الهُويّة العربية الحضارية» تعني الثقافة العربية ذات المضمون الحضاري الذي أخرج الثقافة العربية من الدائرتين العرقية والجغرافية، إلى الأفق الحضاري الواسع الذي اشترك في صيانته ونشره مسيحيون عرب ومسلمون من غير العرب.وفي ظلّ هذا التعريف، ينضوي معظم من هم عربٌ الآن ولم يأتوا من أصولٍ عربية من حيث الدم أو العرق. فقد تفاعلت الأقليات الإثنية (الإسلامية والمسيحية) طيلة أكثر من 14 قرناً مع الثقافة العربية باعتبارها ثقافة حاضنة لتعدّدية الأديان والأعراق، ولا تتناقض مع أصول هذه الأقليات الإثنية،.
وصحيحٌ أنّ هناك خصوصياتٍ يتّصف بها كلُّ بلدٍ عربي، لكن هناك أيضاً أزماتٌ يشترك فيها كلّ العرب أو تنعكس آثارها على الكل، وأنّ «الرؤية العربية المشتركة» لأزمات الأمّة تتطلّب أولاً التسليم بوجود «هُويّة عربية» مشتركة، وبحسم المفاهيم الخاصّة بها وبعلاقتها مع كلٍّ من «الهُويّتين» الدينية والوطنية.