سلطت استقالة أحمد داوود أوغلو، رئيس الوزراء التركي ورئيس حزب العدالة والتنمية والرجل المقرب من زعيم الحزب رئيس الجمهورية الحالي رجب طيب أردوغان، الضوء مرة أخرى على التجربة التركية، لأن ذلك الحدث -على أهميته- هو مجرد جزء من أزمة أكبر يعانيها النظام الحاكم في تركيا، ولم يعد من الممكن إخفاؤها.

لقد بنى أردوغان شرعيته السياسية على أنه صاحب النهج الإصلاحي التوافقي الُمنفتح على جميع الاتجاهات والتيارات، ولكن هذه الشرعية بدأت في التآكل تدريجياً مع الاحتجاجات الشعبية، وما زالت أحداث جيزي بارك الشهيرة بميدان »تقسيم« وسط إسطنبول منذ ثلاثة أعوام ماثلة في الأذهان ومرشحة للانفجار في أي لحظة..

إذ لم تكن مجرد احتجاجات على تغيير طبيعة المكان الذي يحتضن تمثال أتاتورك رمز تركيا الحديثة ومصدر الفخر والاعتزاز لغالبية الأتراك..

ولكنها كانت رمزاً لصدام أعمق بين علمانية متأصلة ومشروع الإسلام السياسي الذي يعبر عنه »العدالة والتنمية«، أي صراع على هوية الدولة والمجتمع عبّر عن حدته زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كليتش دار أوغلو، عندما صرح بـ»أن التغيير الذي يريده النظام لن يتم إلا بإراقة الدماء«، وهو انقسام لا يمكن تجاهله.

والسؤال المنطقي هنا، إذا كانت هذه الأزمات تشكّل قاسماً مشتركاً بين كثير من الأنظمة في منطقتنا وفي غيرها أيضاً من المناطق التي تخرج عن نطاق الديمقراطيات الراسخة، فلماذا التوقف عند تركيا تحديداً؟

والإجابة ببساطة، أن تركيا-أردوغان قدمت نفسها على أنها »النموذج« الإسلامي الديمقراطي الذي يمكن تعميمه في منطقة الشرق الأوسط وفق أسلوب المحاكاة.

ولم تكن هذه الفكرة وليدة لحظة استثنائية، ولكن تم الإعداد والتخطيط لها منذ أن انشق الأخير عن حزب »الفضيلة« الذي أسسه نجم الدين أربكان بعد »الرفاة«، وحظيت بدعم أميركي وغربي لافت، فتركيا تعد من أهم حلفاء الغرب منذ الحرب العالمية الثانية، مثلها مثل إيران-الشاه قبل سقوط نظامه علي أيدي الخميني وأتباعه في 1979.

ولجوء النظام الذي أُسس عليها لتصدير ثورته بطبيعتها الراديكالية إلى خارج حدوده، وهو ما حدا بالدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، إلى البحث عن بديل لنموذج مغاير يمزج بين متطلبات التحديث والمشروع السياسي الإسلامي..

ويوائم بين الديمقراطية ومبادئ الإسلام لاحتواء الحركات الإسلامية التي كانت في تصاعد ملحوظ منذ تلك الحقبة أي حقبة السبعينيات، ويكون حليفاً مضموناً للغرب في الوقت نفسه، ولم يكن أفضل من تركيا لهذه المهمة، فهي عضو في حلف الناتو، وتمتلك واحداً من أكبر الجيوش فيه، أي تمثل قوة إقليمية لا يُستهان بها.

وقد اكتسبت هذه الرؤية أهمية مضاعفة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أوائل التسعينيات واستقلال الجمهوريات الإسلامية، أي جمهوريات آسيا الوسطي التي ترتبط معظم شعوبها عرقياً وثقافياً وتاريخياً بتركيا، وبالتالي كان تدعيم نفوذها هناك أمراً مهماً في مواجهة روسيا، ولا شك أن هذه المتغيرات هي ما وفّر الشروط الموضوعية للرهان على »النموذج« التركي.

ترسخ هذا الرهان بعد اندلاع ثورات الربيع العربي وصعود دور الحركات الإسلامية، ووصول بعضها إلى السلطة (الإخوان تحديداً)، خاصة في مصر وتونس..

وزادت معه طموحات أردوغان في ريادة وقيادة المنطقة، قبل أن تنقلب المعادلة بإسقاط حكم الإخوان في مصر وخسارتهم الانتخابات الرئاسية في تونس. وكانت هذه التطورات بمثابة هزيمة واضحة لتصدير نموذج تركيا الإسلامي، ليخسر الرئيس التركي حماس حلفائه الغربيين الذين راهنوا عليه طويلاً.