«الجميع ضدنا» هو تقريباً مضمون الرسالة الإعلامية التي تُصدرها أغلب وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة، فضلاً عن البرامج الحوارية أو «التوك شو».
وهي مقولة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بفكرة المؤامرة، وتعني إجمالاً وقوف أطراف خارجية وراء الأحدث أو الأزمات الطارئة التي يمر بها بلد من البلدان بغض النظر عن أي أسباب أو تفسيرات أخرى. وللدقة فإن هذه الفكرة موجودة في قاموس العلاقات الدولية وتُعرف بـ»نظرية المؤامرة« وتتبناها كثير من المجتمعات والشعوب في لحظات معينة.
وعلى الرغم من الاعتراف بوجودها فإن الإفراط في استخدامها يعطي مؤشراً سلبياً، بعبارة أخرى عندما يكون هناك خطاب إعلامي نمطي وجاهز لتبرير جميع الأحداث التي تقع دون الأخذ في الاعتبار اختلاف ظروفها وملابساتها والأطراف الداخلة فيها، فلابد أن يكون هناك شيء ما خطأ، وهو ما نتوقف عنده.
إذ إن جميع الأحداث التي شهدتها مصر في الآونة الخيرة تمت معالجتها وفق هذا المنطق، بدءاً بسقوط الطائرة الروسية في أكتوبر الماضي، مروراً بالحادث الغامض لمقتل الشاب الإيطالي جوليو ريجيني، وواقعة اختطاف الطائرة المصرية، وقبل ذلك سد النهضة، وصولاً إلى الحادث الأخير لطائرة مصر للطيران.
فالمفردات المستخدمة ظلت واحدة تقريباً، الضغط على مصر، السعي لتقويض دعائم الدولة وتفكيك مؤسساتها، وقوف أجهزة مخابرات أجنبية وراء تلك الحوادث، تخريب علاقات مصر مع الدول الصديقة، جزء من مخطط أكبر لتقسيم الشرق الأوسط وإفشال دوله، وغيرها من مصطلحات شبيهة، فضلاً عن تحديد دول بعينها تمسك بخيوط تلك المؤامرة هي هنا الولايات المتحدة والغرب عموماً.
قيل هذا على سبيل المثال عن أزمة الطائرة الروسية التي فُسرت على أنها عقاب لمصر على اتجاهها شرقاً، خصوصاً بالانفتاح على موسكو وتكثيف ورفع درجة التعاون معها، رغم أن الذي اتخذ إجراءات فعلية على الأرض وأوقف حركة الطيران من وإلى البلدين وتحذير السياح من القدوم إلى مصر كانت هي روسيا ذاتها..
ورغم ذلك أيضاً تأكيد القيادة المصرية على أن توجهاتها الجديدة لا تمس علاقاتها الاستراتيجية بأميركا، وهذا واقع، ولا بأوروبا التي تعتبر من أهم شركائها التجاريين بالمؤشرات الرقمية.
وهو نفس ما يمكن أن يُقال عن تقرير البرلمان الأوروبي حول حقوق الإنسان في مصر الذي جاء على خلفية قضية ريجيني، وأصدر مجموعة من التوصيات كان من ضمنها حظر توريد بعض الأسلحة لمصر، ومع ذلك وفي أعقابه بفترة قصيرة قام رئيس واحدة من أهم دول الاتحاد الأوروبي هي فرنسا بزيارة للقاهرة، ليوقع معها أكبر عدد من مذكرات التفاهم والتعاون العسكري والاقتصادي..
وكذلك كان موقف ألمانيا، حيث صرح نائب المستشارة الألمانية، أنه »لا قيود على تصدير بلاده أسلحة إلى مصر«، بل إن إيطاليا رغم سحب سفيرها، إلا أنها لم توقف أياً من مجالات التعاون الثنائي وبالأخص في مجال الغاز، وهو استثمار ضخم بكل المعايير. ولا داعي لتكرار الأمثلة، لأن الأهم هو ما تثيره من ملاحظات.
أولاً، أنه من المؤكد وجود أهداف أو »أجندات« خاصة للدول الكبرى والإقليمية كسمة أساسية تنطبق على الجميع، وهناك أيضاً تضارب في المصالح يقود إلى صراعات مباشرة أو غير مباشرة، وهو ما قد يخلق هامشاً »للتآمر« حال وجد، ولكن أن يتم استهلاك هذه الفكرة لتبرير كل صغيرة أو كبيرة، فإن ذلك قطعاً سيُفقد أي طرح من هذا النوع مصداقيته ويجعله مثاراً للتندر.
ثانياً، أن استمرار ترديد هذه المقولة ينال من هيبة الدولة ومكانتها الدولية، ويقلل من النجاحات التي حققتها على صعيد السياسة الخارجية التي شهدت تحركاً نشطاً في السنوات الماضية، وانفتاحاً على العالم، أي أنه لا يضيف شيئاً بل ينتقص من هذا الجانب الإيجابي للسياسة المصرية.
ثالثاً، أن تغذية الشعور لدى المواطنين بأن الجميع يتآمر علينا ويقف ضدنا، هو أمر سلبي في النهاية، قد يؤدي، حتى من دون قصد، إلى الإحساس بالدونية، فليس هناك شعب يسعد بأن يكون دائماً في وضع الضحية.
رابعاً، أن خطاب »المؤامرة« هو خطاب قديم سبق استنفاده في حقبة الستينيات، وربما كان مفهوماً بعد هزيمة 1967، مثلما تبنته قوى وتيارات الإسلام السياسي تحت دعوى محاربة الغرب »المسيحي« للإسلام ومسؤوليته عن »الغزو الثقافي« للمجتمعات المسلمة، سعياً لتدمير القيم الإسلامية. وبالتالي ليس مطلوباً إعادة إنتاج ما مضى.
خامساً، أنه في حالة وجود أخطاء، وهذا وارد بالنسبة لأي دولة، فيقابلها دوماً شجاعة الاعتراف بها وتصحيحها، ويكون ذلك علامة قوة لا ضعف، بل وهل هناك أخطاء تماثل تلك التي تقع فيها الدول الكبرى، مثلما حدث مع الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق وليبيا والتي اعترفت أخيراً بالكثير منها.
أخيراً، نحن جزء من العالم، لا نملك الانعزال عنه، ونتعامل معه وفقاً لقواعده التي تسري على كل الدول، ويجب أن نخاطبه بلغته لا أن نخاطب أنفسنا، وأن نستبق الإعلام الأجنبي بتقديم المعلومات الصحيحة في زمن الإعلام المفتوح، ويقيناً أيضاً أن الدولة المصرية تفطن إلى تلك الحقيقة.