ليست التصريحات التي أطلقها زعيم حركة »النهضة« التونسية راشد الغنوشي، في مؤتمرها العام الذي عقد منذ أسابيع، للفصل بين »الدعوي« و»السياسي« من قبيل التصريحات التي تُقال في المناسبات الاحتفالية، إذ يظل لها دلالاتها وانعكاساتها على مجمل حركات الإسلام السياسي وفي القلب منها جماعة الإخوان المسلمين التي ينتمي لها الغنوشي وإن سعى دوماً للظهور بصورة عصرية مغايرة لنمط الجماعة الإرهابي المعتاد.

لذا قُوبلت دعوته باحتفاء ملحوظ واعتبرها البعض »نقلة تاريخية« في فكر الحركة يُخرجها من أسر الأيديولوجية الجامدة ويُضفي عليها طابعاً ديمقراطياً، حيث جعل مجال النشاط السياسي للحزب، والدعوة لمؤسسات المجتمع المدني تحقيقاً للتوافق الوطني حسبما أشار نائبه عبد الفتاح مورو بقوله »الوطن قبل الحركة«.

إذاً نحن أمام شعارات براقة توحي برؤية جديدة وتعطي الانطباع بثورة فكرية من داخل الحركة ذاتها إيذاناً بمرحلة جديدة تسعى فيها للمصالحة مع جميع التيارات السياسية، والأهم الالتزام بقواعد الدولة المدنية. فهل هذا صحيح؟ وهل ذلك الطرح يُعد جديداً بالفعل؟ وما الداعي للإعلان عنه الآن؟

في حديث مطول لصحيفة »لوموند« الفرنسية سُئل زعيم »النهضة« عن قضايا أكثر تفصيلية فيما يتعلق بموقف حركته من الحريات المدنية والمرأة والقوانين الوضعية وغيرها من أمور مماثلة تمس الحياة الشخصية وشؤون الأسرة، وهنا حملت إجاباته كثيراً من المراوغة واكتفى في بعضها الآخر بالقول إن »هذه مسائل شرعية يتفق عليها الجميع« رغم أنها مقولة غير صحيحة..

وإلا لما وقع الخلاف المجتمعي مع الحركة، الذي أبعدها عن الرئاسة وهزمها في الانتخابات البرلمانية واضطرها في النهاية للجوء إلى سياسة الاحتواء تجنباً لصدام أكبر.

وفي موضع آخر قال صراحة (إن دعوته للتمييز بين شؤون الدعوة والسياسة لا تعني فصل الدين عن الدولة، فقط التخصص يفرض نفسه في اللحظة الراهنة)، وهي عبارة تؤكد أن مقتضيات الوضع السياسي هي التي تفسر تصريحاته الأخيرة وليست المراجعة الفكرية المجردة.

والواقع أن هذا النهج المتقلب لا يعتبر استثنائيا منذ نشأة هذه الحركة، التي غيرت من مسمياتها ومفرداتها ولغتها السياسية أكثر من مرة، فقد بدأت باسم »الجماعة الإسلامية« ثم »الاتجاه الإسلامي« وصولاً إلى »النهضة« وطوال هذه المسيرة دخلت في صراعات شتى مع الدولة والمجتمع حول »الهوية الوطنية« التي سعت لتبديلها واصباغ طابعها الإسلامي عليها.

ولم يكن بلا شك صراعاً سهلاً خاصة وأن التجربة التونسية تحديداً كانت متفردة بين التجارب العربية في درجة العلمانية التي أرساها قائدها في الاستقلال ورئيسها الراحل الحبيب بورقيبة مؤسس دولتها الحديثة، الذي كان الأقرب إلى الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك.

وبلغت قوة تأثير هذه التجربة أن عُرفت باسمه أي »البورقيبية« مثلها مثل »الأتاتوركية«، ولم يكن استدعاء الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي المنتمي إلى هذا التيار العريض رغم كونه مشاركاً أصيلاً في عهود ما قبل الثورة سوى تأكيد على المعنى السابق.

وعلى نمط المحاكاة لجأ الغنوشي إلى نفس أسلوب أردوغان رئيس تركيا الحالي وزعيم حزب »العدالة والتنمية« الذي اعترف صراحة وبصورة مناقضة لخطاب جماعة الإخوان، التي تخرّج بدوره من مدارسها الفكرية، باحترامه لـ»العلمانية التركية« وانشق عن معلمه نجم الدين أربكان بنهجه المنغلق، ليخلق لنفسه مكانة مختلفة داخل بلاده وخارجها ويكتسب ثقة الغرب بالذات، وليدشن تجربته بنفس الحديث الذي يكرره الغنوشي الآن، قبل أن يسقط القناع ويتعثر نموذجه الذي روج له طويلاً بعد اصطدامه بثوابت الدولة والمجتمع التركي.

إن قصة الغنوشي، الذي ُولدت حركته في بيئة مخاصمة لأفكاره والذي أمضى من عمره سنوات بأوروبا وبالتالي تمرس على التعامل مع ثقافتها، تكاد تكون هي نفسها قصة أردوغان. إنها الضرورة وقوة الواقع الذي يفرض نفسه ويفرض معه التناقض الذي نراه مجسماً في الحركتين أو الحزبين الإسلاميين (التركي والتونسي) حفاظاً على الحركة الأم أي الجماعة التي ينتميان إليها.

لذلك لم تكن مصادفة أن يحذو نفس الحذو، أحد القياديين البارزين في الإخوان والعضو البرلماني السابق وقت حكمهم في مصر جمال حشمت، الذي تبنى مطلباً مشابهاً للفصل بين العمل السياسي ومكتب الإرشاد، متعللاً بأن فشل تجربة حزب »الحرية والعدالة« كان في التطبيق، دون التطرق لتجربتهم الأولى في الثمانينيات عندما انضموا إلى أحزاب أخرى (الوفد، العمل، الأحرار) حتى يتمكنوا من المشاركة في الانتخابات، أي أن الفكرة كانت دائماً موجودة.