هناك إجماع على المكانة المحورية التي يحتلها الجيش في تركيا، ليس فقط لكونه واحداً من أكبر الجيوش في الشرق الأوسط وشريكاً مهماً في حلف شمال الأطلنطي (الناتو).
وإنما أيضاً لأنه جزء لا يتجزأ من معادلة الحكم والمؤسسة الأقوى التي حافظت على تماسكها منذ تأسست دولتها الحديثة على أنقاض النظام (1924) الذي ألغاه مصطفى كمال أتاتورك، وتقنينه للعلاقة بين الدين والدولة (العلمانية التركية). ومنذ ذلك التاريخ أصبح الجيش هو «حامي» المبادئ «الكمالية» نسبة إلى اسم زعيمه.
في سياق تلك الخصوصية يمكن قراءة تاريخ الانقلابات العسكرية في تركيا، بدءاً من انقلاب 1961 ضد عدنان مندريس، الذي اُتهم بالسعي لتقويض إرث أتاتورك العلماني ونُفذ فيه حكم الإعدام، مروراً بالإنذار الذي وجهه الجيش إلى رئيس الوزراء سليمان ديميريل لإجباره على الاستقالة في مطلع السبعينيات، ثم الانقلاب الذي تزعمه قائد الجيش كنعان إفرين في 1980.
وصولاً إلى انقلاب 1997 على حكومة نجم الدين أربكان أول رئيس وزراء إسلامي. فهل يمكن إدراج محاولة الانقلاب الأخيرة، التي لم تستمر سوى بضعة ساعات وكانت أشبه بالمغامرة العسكرية، ضمن هذه السلسلة؟
الإجابة لا، فثمة جديد هذه المرة، إذ ليس الجيش في عمومه ووفقاً لتقاليده السابقة هو من قام بهذه المحاولة، بل فئة منه لم تحظ بمباركة المؤسسة العسكرية، مثلما لم يتبنَّ قادة الانقلاب الرسالة المعتادة للجيش التركي في الدفاع عن «هوية» الدولة، والملاحظ أيضاً أن أحزاب المعارضة العلمانية، الخصم العنيد لمشروع أردوغان السياسي، لم تؤيد بدورها تلك الحركة بل دانتها.
لذا ظل هذا التحرك العسكري يكتنفه الغموض إلى أن سارع رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان بالإعلان عن وقوف حليفه بالأمس وغريمه اليوم فتح الله غولن وراء المحاولة الفاشلة.
وكان غولن الذي يعيش الآن في منفاه الاختياري بالولايات المتحدة، قد أنشأ على مدى العقود الأربعة الماضية شبكة اجتماعية ضخمة تُعرف بحركة «الخدمة»، استقطبت قطاعات داخل المجتمع التركي وخارجه، ويدير استثمارات بالمليارات، وله أنصار في كافة مؤسسات الدولة تقريباً:
القضاء والتعليم والإعلام والجهاز الإداري للدولة، ناهيك عن بعض الأجهزة الأمنية السيادية كالمخابرات والحرس الجمهوري والشرطة، والأهم الجيش كما ظهر من التحرك الأخير، وهي سابقة تستحق الوقوف عندها طويلاً، لا لأنها تؤدي إلي «تسييس» الجيش (فهو بالفعل مسيس بحكم انحيازه لمبدأ بعينه وهذا في حد ذاته موقف سياسي) .
ولكن لأنها ستكون بداية الانقسام الحقيقي داخله، وربما رأت قيادات الجيش أن «بريق» مشروع غولن، الذي لم يُختبر في السلطة ستكون أخطر على ثوابت الدولة من أردوغان، وهو ما دفعها لرفض الانقلاب.
في هذا الإطار يمكن تقييم المحاولة الأخيرة من منظور مختلف، لأننا -ولأول مرة- نكون إزاء صراع إسلامي - إسلامي وليس علماني - إسلامي كما هو شائع في تركيا أو حتى عسكري - مدني بصورته التقليدية. وبالتالي سيكون صراعاً مفتوحاً بل أكثر ضراوة وشراسة، ونظراً للجوانب الأيديولوجية لمثل هذا الصراع، فإن أسباب انفجاره مجدداً ستظل كامنة تحت السطح وقد تجعله صراع وجود.
أما من الناحية الدولية، فهناك صراعات أخرى سيخوضها النظام، بدأت بالتوتر الملحوظ مع الولايات المتحدة تحديداً، التي يطالبها بإلحاح بتسليم غولن، وهو أمر لن يكون سهلاً، فأميركا -كسياسة ثابتة لها مع كل الدول- دائماً ما تفضل الإبقاء على قنواتها مفتوحة مع مختلف القوى والتيارات السياسية، أي جميع الأطراف.
وفي هذه الحالة فإن حركة فتح الله غولن قد تُشكل بالنسبة لها «ورقة» جديدة تستطيع توظيفها وقت الحاجة إليها، ولعل في هذا المنطق تفسير لترددها في بداية الأزمة وانتظارها الإفصاح عن موقفها لحين معرفة من الطرف «الفائز» في الصراع قبل أن تنحاز إلى «الشرعية» أو الحكومة المنتخبة مع بوادر فشل الانقلاب.
أردوغان من ناحيته، امتلك نفس الورقة ليساوم بها الإدارة الأميركية خاصة فيما يتعلق بقضية الأكراد ومطلبهم في إقامة دولة مستقلة (تضم إلى جانب أكراد تركيا نظراءهم في سوريا والعراق) وهو المطلب الذي يحظى برضا واشنطن بعد دورهم اللافت في مواجهة «داعش». إنها قصة بدأت فصولها ولم تُكتب لها كلمة النهاية بعد.