عندما نظم أمير الشعراء أحمد شوقي قصيدته الخالدة، التي نحفظ مقطعها الأول عن ظهر قلب «قُم للمُعلم وَفّهِ التبجيلا.. كاد المعلمُ أن يكون رسولا.. أعلمتَ أشرف أو أجلّ.. من الذي يبنى وينشئُ أنفساً وعقولا..» إلى آخر الأبيات، كان يقيناً ينتصر للعلم والتقدم والنهضة، التي لا تتحقق إلا بجودة التعليم واحترام المُعلم، الذي هو في النهاية صانع عقول الأمة ومُهذبها.
أفرد برنامج «العاشرة مساء»، الذي يقدمه الإعلامي المتميز وائل الإبراشي حلقة منذ أيام حول قرار محافظ بورسعيد إغلاق مراكز التعليم الخاصة، التي أصبحت تهدد المدارس الحكومية .
ببساطة أراد المحافظ أن يعيد للمدارس هيبتها ودورها الضائع وسط التدهور العام، الذي كان للتعليم نصيب كبير فيه، وهو هدف نبيل في ذاته، وللمفاجأة، فقد غضب عليه الأهالي ممن يرسلون أبناءهم وبناتهم إلى تلك المراكز، مختارين طوعاً تحمل أعباء التكلفة المادية فيها عن التمتع بمجانية التعليم الحكومي.
من ناحيته يشكو المُدرس ألمه إلى حد البكاء أمام الشاشة، وفي حضور تلاميذه وتلميذاته من تدنى أحواله وأحوال المدارس عموماً، والتي تدفعه دفعاً للبحث عن بديل، وبالقطع ليس كل المُدرسين من «أباطرة البيزنس» كما يُشاع.
ليس الهدف هنا التوقف عند تفاصيل هذه الأزمة ولا حتى مسألة الدروس الخصوصية، لأن القضية أعمق وأخطر من ذلك وتتجاوزه، فهي قضية منظومة التعليم.
التعليم تحديداً ليس كأي قطاع في الدولة، إذ إن آثاره- سلباً أو إيجاباً- ليست مقصورة عليه بل تمتد إلى كل القطاعات ونواحي الحياة الأخرى، فعندما تتراجع مؤشرات التنمية وتنخفض درجة الإنتاجية ونعجز عن أي منافسة دولية، فالسبب هو مستوى التعليم المتدني، وعندما يكون ترتيبنا في أدنى السلّم في العلوم والتكنولوجيا والابتكارات فهو ذات السبب أيضاً.
وعندما نشكو من تكدس الجهاز الإداري وجمود البيروقراطية، التي تُعطل فرص الاستثمار وتزيد من أزمات الاقتصاد فسيكون بالطبع نظام التعليم، الذي يُخرج الآلاف كل عام دون ربطهم بالحاجة الحقيقية لسوق العمل لتكون النتيجة الطبيعية إما بطالة مقنّعة من خلال توظيفهم في هذا الجهاز وإما بطالة صريحة .
كما نرى، وعندما نعانى من استشراء أفكار التطرف والعنف والطائفية وعدم التسامح أو قبول الآخر فهو أيضاً النظام التعليمي المسؤول نفسه عن تشكيل الوعى العام للأجيال الجديدة. كرس طه حسين، وهو من هو، جانباً كبيراً من وقته وجهده ومساهماته الفكرية عظيمة القيمة للتعليم، ولم يكن ذلك من قبيل المصادفة بل كان اعتقاداً راسخاً بمحوريته للارتقاء بالفرد والمجتمع والدولة معاً. وله مقال بعنوان «وزارة المعارف:
العبث بالعلم والمُعلم والتعليم» أراه يعبر عن واقعنا حتى الآن، ولأنه لم يكن فقط مفكراً كبيراً وإنما كان سياسياً ومسؤولاً تنفيذياً أيضاً بتوليه وزارة المعارف (التعليم حالياً)، فقد عمد بكل الوسائل لوضع أفكاره محل التنفيذ، وناضل من أجلها.
في كتابه الشهير «مستقبل الثقافة في مصر» 1938 وإلى جانب محتواه الثقافي الرائد، انتقد تعدد أنواع التعليم الُموزعة بين المدني والديني والأجنبي أو العام والخاص (ما زلنا نعاني من هذه الثنائيات)، التي تُغيب الأرضية الثقافية المشتركة اللازمة لتشكيل عقل ووجدان الأمة، وكان طموحه أن تستند مراحل التعليم من الابتدائي إلى الثانوي على نفس أسس العلوم والمعارفي قبل التخصص في مرحلة التعليم الجامعي.
مفتاح الحل الحقيقي هو في يد الدولة، وليس في الحلول الفردية والمجتزأة، وإن السياسة اختيارات وتفضيلات وأولويات وإذا توافرت الإرادة السياسية سيحتل التعليم المكانة اللائقة به كونه أولوية قصوى، وسيُعد أكبر استثمار لمصر بحكم امتلاكها قوة بشرية هائلة.