عقد الخمسينيات من القرن الماضي كان عصر ازدهار واشتعال تيار القومية العربية والهُوية العروبية، وذلك حصل بفضل «ثورة 23 يوليو» عام 1952 ووجود قيادة سليمة لمصر، التي جسدت دور قيادة الأمة العربية في تلك الحقبة من الزمن.

ولقد انتهى عقد الخمسينيات بإعلان «الجمهورية العربية المتحدة» بين مصر وسوريا، كونها نواة لمشروع الوحدة العربية الشاملة وللتكامل بين كل أقطار الأمة العربية، لكن ما كان ممكناً للمتضررين الإقليميين والدوليين من «عصر ازدهار العروبة» أن يسمحوا باستمراره.

فحدثت مؤامرة لفصل سوريا عن «الجمهورية المتحدة» في 28 سبتمبر، ثم اشتعلت حرب اليمن التي تورطت بها مصر لسنوات، ثم حدثت حرب العام 1967 ونتائجها الخطرة على مصر والمنطقة كلها، ثم توفي جمال عبد الناصر في العام 1970 (أو اغتيل كما تؤكد الكثير من المعلومات) في يوم أسود آخر من شهر سبتمبر، هو أيضاً يوم 28 سبتمبر.

طبعاً، هي ليست بصدفة زمنية فقط أن تختار إسرائيل لاحقاً شهر سبتمبر ليكون شهر «أفراحها» بعد الذي حدث في شهر سبتمبر من العام 1970.

فمعاهدات إسرائيل مع مصر في «كامب ديفيد» ومجازر «صبرا وشاتيلا» في لبنان وتوقيع «اتفاق أوسلو» مع «منظمة التحرير الفلسطينية»، حدثت كلها في شهر سبتمبر من أعوام مختلفة! لكن الفوز الحقيقي لإسرائيل وللقوى الكبرى الطامعة بالهيمنة على المنطقة العربية كان وما زال هو في تراجع تيار العروبة منذ مطلع عقد السبعينيات لصالح الصراعات العربية البينية.

والتي بدأت كونها خلافات بين حكومات، ثم أصبحت الآن بين شعوب البلدان العربية نفسها في أشكال مختلفة من الحروب الأهلية المدعومة إقليمياً ودولياً.

إن المنطقة العربية تختلف عن غيرها من بقاع العالم بميزات ثلاث: فأولاً، تتميز أرض العرب بأنها أرض الرسالات السماوية؛ فيها ظهر الرسل والأنبياء، وإليها يتطلع كل المؤمنين بالله على مر التاريخ، وإلى مدنها المقدسة يحج سنوياً جميع أتباع الرسالات السماوية من يهود ومسيحيين ومسلمين.

وثانياً، تحتل أرض العرب موقعاً جغرافياً مهماً جعلها في العصور كلها صلة الوصل ما بين الشرق والغرب، ما بين أوروبا وآسيا وأفريقيا، وبين حوض المتوسط وأبواب المحيطات. ومن هذا الموقع الجغرافي المهم خرجت أو مرَت كل حضارات العالم سواء القديم أو الحديث.

وثالثاً، تمتلك أرض العرب خيرات طبيعية اختلفت باختلاف مراحل التاريخ، لكنها كانت دائماً مصدراً للحياة والطاقة في العالم، فهكذا هو الحال منذ أيام الإمبراطورية الرومانية، التي كانت خزائن قمحها تعتمد على الشرق العربي، وصولاً إلى عصر النفط والغاز المليئة الأرض العربية بمصادرهما.

وهذه الميزات الإيجابية جعلت المنطقة العربية دائماً محط أنظار كل القوى الكبرى الطامعة في السيطرة والتسلط، وفتحْتَ شعار «تحرير أرض مهد السيد المسيح»، وبرر الصليبيون غزواتهم للمنطقة العربية، بينما كان الهدف الحقيقي منها السيطرة على المنطقة العربية وخيراتها الاقتصادية في ظل الصراعات والأزمات، التي كانت تعصف بأوروبا.

وتحت شعار استمرارية «الخلافة الإسلامية» برَر العثمانيون سيطرتهم على معظم البلاد العربية، وتبريراً لإقامة حاجز بشري يفصل المشرق العربي عن مغربه، كانت فكرة إقامة دولة إسرائيل في فلسطين بحجة أنها أرض هيكل سليمان.

كذلك الأمر بالنسبة للموقع الجغرافي والخيرات الطبيعية؛ منذ الإسكندر الكبير، الذي احتل مصر وبنى الإسكندرية ليصل إلى شرق آسيا، وحتى مرحلة حملة نابليون، ثم الاحتلال البريطاني وبناء قناة السويس لتسهيل السيطرة على المحيط الهندي.

وكان السياق العام لتاريخ المنطقة هو أن «الخارج الأجنبي» يتعامل مع «الموقع العربي» كونه وحدة متكاملة ومتجانسة، في الوقت نفسه الذي يدفع فيه هذا «الخارج» أبناء «الداخل العربي» إلى التمزق والتشرذم! لكن سلبيات الواقع العربي الراهن لا تتوقف فقط على المخاطر الناجمة عن إيجابيات «الموقع العربي»، بل أيضاً على أحوال أصحاب الأرض العربية، وكيفية رؤيتهم لأنفسهم ولهويتهم ولأوضاعهم السياسية والاجتماعية، ففي هذا الزمن الرديء الذي تمر به المنطقة العربية، فإن مشاعر اليأس تزداد بين العرب، وتصل ببعضهم إلى حد البراءة من إعلان انتمائهم العربي.

وتحميل العروبة مسؤولية تردي أوضاعهم، لكن الانتماء الوطني والقومي، ليس ثياباً نلبسها ونخلعها حين نشاء، وإن الحالة العربية السوداوية الراهنة هي مسؤولية الرافضين لانتمائهم العربي قبل غيرهم، لأنهم عرفوا أن هناك مشكلة في أوطانهم العربية، إلا أنهم عوضاً عن حل المشكلة أو المساهمة بحلها قدر الإمكان، هربوا من المشكلة إما إلى الأمام لانتماءات أممية (بأسماء دينية أحياناً).

وإما للخلف بالعودة إلى القبلية والطائفية والعشائرية. إن الشعوب تنتقل خلال مراحل تطورها من الأسرة إلى العشيرة ثم إلى القبيلة ثم إلى الوطن والأمم، فلِمَ يريد البعض أن يعيد دورة الزمن إلى الوراء؟ بل ماذا فعل العرب حتى تبقى أوطانهم واحدة تتطور وتتقدم وتتكامل بدلاً من دفعها للعودة إلى حروب القبائل والطوائف؟!

لقد تفاعلت خلال العقود القليلة الماضية قضايا عديدة في المنطقة العربية وفي العالم، كانت بمعظمها تحمل نتائج سلبية على الهوية العربية المشتركة، فتنقلها من كبوة إلى كبوة، وقد امتزجت هذه السلبيات مع انجذاب أو اندفاع في الشارع العربي إلى ظاهرة «التيارات الدينية والطائفية»، التي دعمتها عوامل كثيرة، داخلية وخارجية.

والتي أسهمت بأن يبتعد المواطن العربي عن «هويته العربية»، وأن يلتجئ إلى أطر سياسية وفكرية تحمل مشاريع ذات سمات دينية/ طائفية أو مذهبية، اعتقاداً أنها هي الأساس الصالح لمستقبل أفضل.