يتكرّر لدى بعض المشاركين في ندوات «مركز الحوار العربي» بمنطقة العاصمة الأميركية، طرح مسألتين متلازمتين، وهما: هل ما زال هناك فعلاً هُويّة عربية مشتركة؟

ثمّ ما هو دور المهاجرين العرب تجاه ما يحدث في بلدان العرب؟. وحتماً، فإنّ هذين الموضوعين هما أيضاً قضية مثارة في أي محفل فكري عربي في دول الغرب والمهجر عموماً، لأنّ الصراعات العربية البينية هي الطاغية الآن، فعن أي «هُوية عربية» نتحدث؟! وأين هو دور من يشكّلون طليعة عربية مثقّفة في دول المهجر إذا كان السائد عربياً هو أسلوب العنف، لا التحاور أو التفاعل الفكري المثمر؟!

ورغم مصداقية تلك التساؤلات، فإنّ خلاصاتها السلبية لا تتناسب مع الأسباب الحقيقية التي أدّت إلى حدوثها، ذلك أنّ مشاعر اليأس التي تزداد الآن بين العرب، وتصل ببعضهم إلى حدّ البراءة من إعلان انتمائهم العربي، وإلى تحميل العروبة مسؤولية تردّي أوضاع أوطانهم، هي ناتجة عن مشكلة الخلط بين الانتماء الطبيعي وبين الظروف المصطنعة، بين العروبة الحضارية وبين الأنظمة والحكومات، بين الهويّة الثقافية وبين الممارسات السياسية والحزبية.

أي إنّها مشكلة التعامل مع الانتماء القومي بمقدار ما ننظر إليه آنيّاً وليس بمقدار ما هو قائمٌ موضوعياً. فسواء رضي بعضنا بذلك أم لم يرضَه، فإنّ الانتماء للهوية العربية، ليس ثياباً نلبسها ونخلعها حين نشاء، بل هو جلد جسمنا الذي لا نستطع تغييره مهما استخدمنا من عملياتٍ جراحية وأدواتٍ مصطنعة.

إنّ «الهوية العربية»، والانتماء لها، فخرٌ للعرب، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. فيكفيهم فخراً أنّ أرضهم العربية هي أرض كلّ الرسالات السماوية، وأنّ الله عزَّ وجلَّ كرّمها بأنّ بعث رسله كلّهم منها وعليها، وكانت هذه الأرض الطيّبة منطقة ومنطلق الهداية الإلهيّة للناس أجمعين وفي كلّ مكان، وبأنّ القرآن الكريم نزل باللغة العربية، وأن الثقافة العربية كانت الحاضنة الأولى للدعوة الإسلامية.

أيضاً، إنّ مسألة الهوية لا ترتبط فقط بالجغرافيا بل بالتاريخ المشترك، وبالمستقبل الأفضل القائم على التكامل، وبالحاضر السياسي والثقافي والاجتماعي الموحّد في حال العرب. ونجد أيضاً في مشكلة الهويّة العربية هذا الانفصام الحاصل بين وجود ثقافة عربية واحدة وبين عدم وجود دولة عربية واحدة. فمعظم شعوب العالم اليوم تكوّنت دوله على أساس خصوصية ثقافية.

بينما الثقافة العربية لا يُعبّر عنها بعد في دولة واحدة. فالموجود الآن من الدول العربية هو أوطان لا تقوم على أساس ثقافات خاصّة بها، بل هي محدّدة جغرافياً وسياسياً بفعل ترتيبات وظروف مطلع القرن العشرين التي أوجدت الحالة الراهنة من الدول العربية، إضافة طبعاً لزرع «دولة إسرائيل» في قلب المنطقة العربية.

إنّ «الهوية العربيَّة» كانت موجودة كلغةٍ وثقافة قبل وجود الإسلام، لكنَّها كانت محصورة بالقبائل العربيَّة وبمواقع جغرافية محدّدة في الجزيرة العربية.. بينما «الهويّة العربية الحضارية» الآن، والتي أستحسن تسميتها بـ«العروبة» - كَهويَّة انتماءٍ ثقافي غير عنصري وغير قبلي - بدأت مع ظهور الإسلام، ومع ارتباط اللغة العربيَّة بالقرآن الكريم، وبنشر الدعوة بواسطة روَّادٍ عرب.

ومن المهمّ الإدراك أنّ العرب هم أمَّة واحدة في الإطار الثقافي وفي الإطار الحضاري وفي المقاييس التاريخية والجغرافية (اشتراك في عناصر اللغة والثقافة والتاريخ والأرض)، لكنَّهم لم يجتمعوا تاريخياً في إطارٍ سياسيٍّ واحد على أساس مرجعية العروبة فقط. فالأرض العربيَّة كانت تحت سلطةٍ واحدة في مراحل عدة من التاريخ.

من هنا أهمّية التوافق على مسألتين:

الأولى: حسم مسألة الانتماء إلى أمَّةٍ عربيَّةٍ واحدة من حيث عناصر تكوين الأمَّة (لغة - ثقافة - تاريخ - أرض مشترَكة)، وحسم مسألة البُعد الحضاري الإسلامي الخاصّ في العروبة، والمميِّز لها عن باقي القوميات في العالم الإسلامي.

الثانية: ضرورة المرونة في كيفيَّة الوصول إلى تعبيرٍ دستوريٍّ سياسي عن وحدة الأمَّة العربية، وفي عالمنا المعاصر نماذج عدة ممكن الاستفادة منها كالتجربة الأميركية (دستور اتحادي/‏‏فيدرالي بين خمسين ولاية) والتجربة الأوروبية (تكامل تدريجي/‏‏من الكونفيدرالية إلى الفيدرالية بين أممٍ ودولٍ مختلفة).

لكن يبقى الأساس في أيَّة وسيلةٍ تستهدف الوصول إلى دولة «الولايات العربية المتحدة» أو إلى «الاتحاد العربي»، هو:

1 ـ الدعوة السلمية ورفض الابتلاع أو السيطرة أو الهيمنة من وطنٍ عربيٍّ على آخر..

2 ـ تحرّر الأوطان العربية من الهيمنة الأجنبية (الإقليمية والدولية) وإقامة أنظمة حكم ديمقراطية تصون عملية الوحدة أو الاتحاد. فالتَّحرر الوطني والبناء الدستوري السليم، معاً هما المدخل السليم لوسائل تحقيق الوحدة أو أيّ شكلٍ اتحاديٍّ عربيّ.

أمّا عن دور المهاجرين العرب إلى الغرب، فقد توفَّرت لهم فرصة التفاعل المشترك فيما بينهم بغضِّ النظر عن خصوصياتهم الوطنية.

وبالتالي توفَّر إمكان بناء النموذج المطلوب لحالة التفاعل العربي في أكثر من مجال. أيضاً أتاحت لهم الإقامة في الغرب فرص الاحتكاك مع تجارب ديمقراطية متعدّدة من الممكن الاستفادة منها عربياً في الإطارين الفردي والمجتمعي. لذلك فإنّ للمهاجرين العرب خصوصية مميّزة في عملية التكامل والإصلاح العربي المنشودين.

لكن المشكلة عند المهاجرين العرب، هي التشكّك الذاتي الحاصل لدى بعضهم في هويّته الأصلية العربية، ومحاولة الاستعاضة عنها بهويّات فئوية، بعضها ذو طابع طائفي ومذهبي، وبعضها الآخر إثني أو مناطقي أو في أحسن الحالات إقليمي. لذلك، فإنّ الدور المنشود من المهاجرين العرب يُحتّم عليهم أولاً تحسين وإصلاح ما هم عليه الآن من خلل في مسألة الهوية، ومن سلبية تجاه مؤسّسات العمل العربي المشترك في الغرب.