كثيرون من العرب لم يجدوا مشكلة في وصول دونالد ترامب إلى منصب رئاسة الولايات المتحدة، ولا أيضاً بما يتم الحديث عنه من تدخل روسي في الانتخابات الأميركية، بل اعتبر البعض أن ترامب، رغم كل سلبياته، يبقى أفضل من الخيار الآخر الذي كان متاحاً، وهو فوز هيلاري كلينتون، وفق معيار التفضيل بين السيئ والأسوأ!

لقد كان هذا المنطق هو أيضاً حال العديد من العرب في أميركا وخارجها خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية في العام 2000، حينما كان الخيار بين جورج بوش الابن وآل غور، فإذا بحكم «المحافظين الجدد»، يأتي كإفراز طبيعي للقوى التي ساندت بوش في الانتخابات.

حيث عاشت أميركا والعالم، وخاصّة دول المنطقة العربية والعالم الإسلامي، أسوأ الظروف، كنتيجة للحرب على العراق وأفغانستان، وما رافقهما من دعم مفتوح لإسرائيل في حروبها على الأراضي الفلسطينية ولبنان، وعلى مقرّ وقيادة منظمّة التحرير الفلسطينية في رام الله.

لو وصلت هيلاري كلينتون إلى البيت الأبيض، ما كان ممكناً لها أن تخرج عن السياق العام لسياسة الحزب الديمقراطي، بعد التحوّلات الكبرى التي حدثت فيه خلال السنوات الثماني الماضية.

والتي عبّرت عنها ظاهرة بيرني ساندرز وتيّاره الكبير وسط الحزب، إضافةً إلى التنوّع الإثني والديني الذي يقوم عليه الآن الحزب الديمقراطي، مقارنةً مع بروز تيّار التعصّب العرقي والديني داخل «الحزب الجمهوري»، وهو الحزب المتميّز أصلاً بدعم الشركات النفطية ومصانع الأسلحة لمرشّحيه.

فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية، كان العامل الأساس فيه ليس شخصه، ولا طبعاً مؤهّلاته أو خبراته في الحكم والسياسة، بل كان العامل الأساس، هو الصراع الدفين الحاصل في المجتمع الأميركي بين المتمسكين بأميركا الأصولية القديمة، التي قامت على الرجل الأوروبي الأبيض البروتستانتي والعنصري أحياناً، وبين أميركا الحديثة التقدّمية، التي أصبح أكثر من ثلث عدد سكانها من المهاجرين من أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.

في تقديري، فإن ترامب تحالف أيضاً مع الشركات الكبرى الأميركية، التي تتضرر من المنافسة الصينية العالمية، وحيث لم تستطع هذه الشركات في العقود القليلة الماضية، وقف المنافسة مع الصين واليابان في السوق الأميركية، فكيف بأسواق العالم كلّه؟!، وربّما كانت هذه القوى الاقتصادية وراء ما شهدناه في فترة حكم أوباما من سعي لتركيز الاهتمام الأميركي على منطقة شرق آسيا، .

حيث تجاوبت إدارة أوباما إلى حدٍّ ما مع ضغوطات هذه القوى، دون الوصول إلى مرحلة القطيعة مع الصين، أو اعتبارها الخصم الأول لأميركا، وأيضاً دون تهميش الخلافات مع روسيا، كما يحاول الآن ترامب.

دونالد ترامب، سيكرر في تركيبة إدارته القادمة، ما فعله بوش الابن، من وضع أشخاص في الإدارة غير منسجمين مع رؤى المحافظين الجدد، وستخضع العديد من الإدارات والمؤسسات الأميركية لتغييرات في المناصب المهمة فيها، لكي تنسجم مع القوتين الفاعلتين مستقبلاً: القوة السياسية والاجتماعية لجماعات «أميركا القديمة»، والقوة الاقتصادية لتحالف الشركات والمصانع الكبرى.

إن العالم اليوم، ليس كما كان في حقبة الحرب الباردة بين معسكر شيوعي وآخر رأسمالي. فعالم اليوم يقوم على المنافسة بين القوى الكبرى، التي تختلف أو تتّفق تبعاً لمصالح اقتصادية أولاً، وبما يضمن تفوّق هذا الطرف أو ذاك. أمّا في داخل مجتمعات هذه القوى، فإنّ عوامل كثيرة تُشجّع الآن على نمو التيّارات العنصرية في العديد منها.

ولا أجد مصلحةً عربية في ما هو قادمٌ من عالم الغد الأميركي المهيمن على مصائر دول وشعوب ومعاهدات. فإذا كانت إدارة ترامب ستهادن موسكو لفترة من الوقت، مقابل التركيز على الخصم الصيني، كما فعلت الولايات المتحدة بشكل معاكس مع الصين الشيوعية خلال فترة الحرب الباردة مع روسيا الشيوعية، فإن النهج الجديد في قضايا دولية عديدة، سيتناقض مع مصالح موسكو أيضاً.

سيكون في تخطيط الداعمين لترامب من قوى الشركات الأميركية الكبرى، أنّ التركيز على الصين وبدء حرب باردة معها، كالتي حدثت مع الاتحاد السوفييتي، سينهك الاقتصاد الصيني، كما أنهك الاقتصاد الروسي سابقاً.

إنّ ما حدث ويحدث من توتّر وخلافات بين واشنطن وموسكو في فترة إدارة أوباما، ليس بغيمة عابرة تصفو بعدها العلاقات ما بين البلدين. فلم تكن مشكلة موسكو مع إدارة أوباما فقط، بل إنّ جذور المشاكل تعود لفترة إدارة بوش الابن، حيث وقف الرئيس بوتين في مؤتمر ميونخ للأمن في عام 2007، محتجّاً على السياسة الأميركية التي كانت سائدة آنذاك.

أولويات روسيا كانت هي أمنها الداخلي، وأمن حدودها المباشرة في أوروبا، وإصرارها على مواجهة أيّ محاولة لعزلها أو لتطويقها سياسياً وأمنياً. وموسكو أدركت أنّ الوجود العسكري الأميركي في منطقة الخليج العربي وفي أفغانستان وفي العراق وفي جمهوريات آسيوية إسلامية، هو بمثابّة تطويق شامل للأمن الروسي، يتكامل مع تمدّد حلف «الناتو» في أوروبا الشرقية، ومع محاولة نشر منظومة الدرع الصاروخية. وهذه كانت سياسة الدولة الأميركية، ولم تكن فقط سياسة حاكم في «البيت الأبيض»!