نجحت قوى «أميركا القديمة» في إيصال دونالد ترامب إلى «البيت الأبيض» على حساب مرشّحين آخرين من «الحزب الجمهوري» بسبب قيام حملته الانتخابية على مفاهيم ومعتقدات هذه القوى، لكن هذه هي المعركة الأخيرة لجماعات «أميركا القديمة»، فهي، وإن نجحت الآن في إيصال ترامب إلى الرئاسة، فإنّها لن تستطيع وقف التقدّم الأميركي نحو مستقبل مختلف عن معتقداتها.
طبعاً، لا يصح القول الآن أنْ لا فرق بين إدارةٍ أميركية وأخرى، أو بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، كما كان خطأً كبيراً أيضاً التوهّم عام 2008 أنّ إدارة أوباما ستكون حركة انقلابية على المصالح والسياسات العامة الأميركية.
فما حدث في العام 2008 كان انقلاباً على «مفاهيم رجعية أميركية» غير منسجمة أصلاً مع طبيعة الدستور الأميركي، ولم تعد لها قيمة لدى الجيل الأميركي الجديد، في ظل مجتمعٍ تتزايد فيه أعداد المهاجرين غير الأوروبيين، الذين سيشكلون خلال عقود قليلة مقبلة غالبية عدد السكان.
وقد كان من مصلحة جماعات التطرّف والعنف في العالم الإسلامي فوز دونالد ترامب بسبب توقع تكراره لما حدث في مرحلة إدارة بوش الابن، من سياسة العداء لشعوب إسلامية والحروب على أراضيها، تلك السياسات التي كانت تساعد على تبرير استخدام العنف من قبل جماعات متطرفة وعلى استقطاب المؤيّدين لها.
إنّ العنصرية موجودة في المجمع الأميركي لقرون عدة وهي عميقة ضد الأميركيين ذوي البشرة السوداء، وهي متجددة ضدّ كل أنواع المهاجرين الجدد من غير الأصول الأوروبية، وهي نامية ضد الأقليات ذات الأصول الدينية الإسلامية. فكيف لو اجتمعت مع ذلك كلّه خلف إدارة ترامب فعالية شركات ومصانع ضخمة تجد في أجندة ترامب وفريقه ما يخدم مصالحها الداخلية والخارجية؟!
نعم، هناك انقسام أميركي كبير الآن وخلاف بين الإدارة ومعارضيها، لكنّه انقسام محكوم بوسائل التغيير الديمقراطية وبالمؤسسات الدستورية وبالعودة لاحقاً إلى صناديق الاقتراع. لكن في منطقتنا قد تكون هناك مراهنات عربية وإقليمية على متغيّرات سياسية أميركية، لكن ذلك لن يسقط بعض المراهنات الأميركية والإسرائيلية على متغيّرات في جغرافية أوطان المنطقة وكياناتها السياسية.
لقد عاشت المنطقة العربية في مطلع هذا القرن حقبة خضعت الأحداث فيها لمتطرّفين دينيين وسياسيين تولّوا حكم أكبر قوة في العالم (الولايات المتحدة)، وأكبر قوة إقليمية في الشرق الأوسط (إسرائيل)، بينما سادت سمة التطرّف الديني والسياسي في مواجهة مشاريع التطرّف الأميركية والإسرائيلية.
فقد كان العام 2001 هو عام بدء حكم «المحافظين الجدد» في أميركا مع ما حصلت عليه إدارة بوش من دعم التطرّف العقائدي لها بالطابع الديني المسيحي، كما كان عام وصول شارون لرئاسة حكم إسرائيل على قاعدة تطرّف ديني يهودي، مع بروز «القاعدة» ووقوع أحداث الإرهاب في أميركا وغيرها على أيدي جماعات متطرّفة بطابع ديني إسلامي، وها هي الظروف تحاول أن تعيد التاريخ نفسه من خلال وجود فريق ترامب في قيادة أميركا والعالم بمرحلة متزامنة مع وجود حكومة نتانياهو في إسرائيل و«دويلة داعش» في المنطقة العربية!
وقد كتب الكثيرون عن خطط غربية وإسرائيلية لجعل «الإسلام» هو «العدو الجديد» للغرب، ثمّ خرجت، على الطرف الآخر، كتاباتٌ عدة في أميركا والغرب مبشّرة بنظريّة «صراع الحضارات». لكن للأسف، سارت الأمور في العالم الإسلامي بهذا الاتجاه الذي جرى التحذير منه طيلة عقد التسعينيات!!
وليست هي المرّة الأولى التي تُعاصر فيها بلدان العالم هذا المزيج من مشاعر العنصرية والكراهية. فالتاريخ الإنساني حافل بهذه المشاعر السلبيّة بين الجماعات والشعوب. لكن ذلك كان محدوداً في أماكنه، أما عالم اليوم فقد «تعولمت» فيه مشاعر العنصرية وصيحات الكراهية.
وقد سادت في مطلع هذا القرن الجديد ظواهر تطرّف وأعمال إرهاب شملت جهات الأرض الأربع، ولم تزل فاعلة في كلٍّ منها، حيث انتعش بعدها التطرّف السياسي والعقائدي في كل بلدٍ من بلدان العالم، وأصبح «المتطرّفون العالميّون» يخدمون بعضهم البعض وإن كانوا يتقاتلون في ساحات مختلفة!
جماعات كثيرة في العالم ما زالت تمارس أسلوب العنف المسلّح تحت شعاراتٍ دينية، وهي تنشط الآن في دول عدّة بالمنطقة، وتخدم في أساليبها المشروع الإسرائيلي الهادف لتقسيم المجتمعات العربية وهدم وحدة الأوطان والشعوب معاً، كما يستفيد منها حتماً دعاة العنصرية والتطرف في أميركا وأوروبا.
إنّ الصراعات العربية الدائرة الآن تخضع إلى توصيفين يكمّل كل منهما الآخر: التوصيف الأول الذي يراها صراعاً بين قوى إقليمية ودولية فقط. أمّا التوصيف الثاني، فيصوّرها فقط صراعاً داخلياً على الحكم. فإذا كانت هذه التوصيفات تعتمد المواقف السياسية كمعيار، فإنّ ذلك يُسقط عنها السِّمة الطائفية أو المذهبية أو الإثنية، حيث نجد حلفاء هذا الطرف أو ذاك ينتمون لطوائف وجنسيات مختلفة إقليمياً ودولياً.
وهي ليست طبعاً صراعات بين «خيرٍ وشر» ولا بين «أيديولوجية الكراهية» و«عقائد الحب»، ولا هي أيضاً بين «شرقٍ وغرب».. تماماً كما أنها ليست بصراعاتٍ طائفية ومذهبية وإثنية. فلا تكبير طبيعة هذه الصراعات يصح معها، ولا تصغيرها يحجب حقيقتها.
لكن يبقى السؤال في المنطقة العربية عن مدى جاهزية الأطر البديلة فكرياً وعملياً لنهج التطرف!
وعهد ترامب هو آخر طلقة في بندقية العنصريين الأميركيين، فعسى ألا تصيب هذه الطلقة من جديد قلب العالم الإسلامي.. الأمة العربية!