لا يبدو في الأفق القريب ما يشير إلى استعداد أميركا للتراجع عن المواقف التصعيدية في السياسة الخارجية، والتي تنتهجها الآن إدارة ترامب تجاه كوريا الشمالية وسوريا وأفغانستان.
المسافة الجغرافية التي تفصل ما بين سوريا وكوريا الشمالية، مروراً بإيران وأفغانستان، هي الآن بؤرة الاهتمامات الأميركية في مطلع القرن الجديد.
لذلك يصبح أيضاً تكثيف التواجد العسكري الأميركي في هذا الممر الجغرافي هدفاً مهمّاً لضبط إيقاعات مستقبل الحرب والسلام والاقتصاد والتوجّهات الثقافية عند أمم وشعوب، تختلط فيها الحضارات والصراعات على شريطٍ يمتدّ من الصين واليابان إلى الهند وباكستان، إلى الأبواب الخلفية لروسيا، إلى مخازن الطاقة والنفط العالمي، إلى البوابة الشرقية لكلٍّ من الأمّة العربية وأوروبا، إلى تداعيات الصراع العربي - الإسرائيلي. التصنيف الأميركي لـ»محور الشرّ الثلاثي:
العراق، إيران، وكوريا الشمالية«، الذي أعلنه الرئيس الجمهوري جورج بوش الابن في العام 2002، كان الهدف منه عملياً هو السعي لكيفية ضمان »الخير الثلاثي الأميركي«: السيطرة على النفط التحكّم بالمواقع الاستراتيجية الجغرافية - وضمان الأحادية القطبية الأميركية.
لقد مارست واشنطن في نصف القرن الماضي، أي في فترة الحرب الباردة، سياسة قامت على ثلاثة محاور: محور العدو، أي الاتحاد السوفييتي ودول حلف وارسو، محور الأصدقاء، أوروبا الغربية ودول حليفة أخرى، ثمّ محور الخصوم، أي الدول غير المصنّفة نهائياً في أحد المعسكرين، كالصين وعدد من دول آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.
حرصت واشنطن في هذه السياسة على »عزل العدو« وعلى »تعميق الصداقة مع الصديق« وعلى »تحييد الخصم قدر المستطاع«، وعندما انهار »العدو« أصبح مطلوبٌ أميركياً تبعية »الصديق« دون اعتراض، وفرز الخصوم بين أعداء جدد أو أتباع جدد!!
هناك حروب وصراعات عدّة بدأتها أميركا أو خطّطت لبعض تفاصيلها لأجل توسيع دائرة هيمنتها أو لتحجيم نفوذ المنافسين لها، بعض هذه الحروب سارت في اتجاه الهدف الأميركي، وبعضها الآخر مشى في الاتجاه المعاكس لرغبات واشنطن، لكن الحروب كرّ وفرّ.
وقد فشلت أميركا في أماكن عدة كان أبرزها في الميدان العسكري خسارتها لحرب فيتنام، وكان أهمّها في الميدان السياسي خسارتها لموقع النفوذ في إيران، وعجزها عن حماية نظام الشاه من طوفان الثورة الشعبية الإيرانية.
تاريخ الإمبراطوريات والقوى الكبرى في العالم يقوم على صناعة أحداث للاستفادة من نتائجها، أو توظيف أحداث قائمة لخدمة مصالح القوة الكبرى المهيمنة.
لا أعلم إذا كانت صدفة تاريخية أن يتزامن عام سقوط الأندلس مع عام اكتشاف كولومبس للقارة الأميركية في العام 1492، فقد كان ذلك التاريخ بداية لتكوين أمّة جديدة قامت نواتها الأولى على قهر أصحاب الأرض الشرعيين واستبدالهم بمستوطنين قادمين من أوروبا خوفاً من أوضاع خاصّة في بلدانهم أو طمعاً في ثروات الأرض الجديدة.
لكن نهب الأرض الجديدة وقتل وتشريد أصحابها الشرعيين، ثمّ الصراعات على الغنائم بين القادمين الجدد، ثمّ الحروب الأهلية والخلاف على تفاصيل السيادة والحكم وكيفية العلاقة مع الجماعات البشرية المستوردة بالقوة من أفريقيا..
كلُّ ذلك، مع ما تخلّله من سيطرة »ثقافة الكاوبوي« وانعدام التراث الذاتي الحضاري للأمّة الجديدة، لم يكن هو سبب تحوّل الأرض المكتشفة منذ قرون قليلة إلى القوة العظمى الوحيدة الآن في العالم.
أمّا بداية الانتشار الأوروبي في الأرض الأميركية الجديدة، فكان في خضم التخلّف الحضاري الأوروبي، لكنّ المهاجرين الأوروبيين استدركوا لاحقاً مصالحهم الخاصة في الأرض الجديدة، فجعلوا من انفصالهم عن أوروبا بداية لتكوين أمّة جديدة قامت على فكرة الانشقاق السياسي عن الدول الأصلية للجماعات المهاجرة، لكن دون انفصال فكري أو ثقافي عنها.
ورغم كل المساوئ التي رافقت نشوء الأمة الأميركية الجديدة، فإنّ تحوّل خليط الثقافات والأعراق فيها إلى أمّة واحدة ما كان ليحدث لولا البناء الدستوري السليم الذي حافظ على التعدّدية في الخصوصيات (للأفراد والجماعات) في ظلّ الانتماء إلى دولة فيدرالية واحدة.
أيضاً، لم تنجح أي دولة بمفردها من دول أوروبا الغربية أن توازن الولايات المتحدة رغم الاشتراك معها في كيفية أساليب الحكم والصيغ الدستورية والمضمون الحضاري.
لذلك اختارت هذه الدول الأوروبية (المتصارعة تاريخياً، والمتباينة ثقافياً) أن تحذو حذو أميركا في الجمع بين التكامل الاتحادي والنظام الدستوري السليم الملائم لهذا التكامل وما فيه من جماعاتٍ متعدّدة.
هذه هي الأمّة الأميركية الآن: أمّة موحّدة رغم ما فيها وما قامت عليه من تناقضات وصراعات عرقية وثقافية، أمّة محكومة بدستور يتجدّد ولو بفعل ضغط الشارع وليس بمبادرة من المشرّع الدستوري، أمّة هي اليوم تقود العالم وتصنع أحداثه ولو بالرغم من إرادة كلّ العالم.
أمّا أمّة العرب فهي الآن ممزّقة سياسياً وكيانياً رغم ما هي عليه من وحدة ثقافية ومصالح مشتركة وتاريخ واحد بكل سلبياته وإيجابياته. فالواقع العربي تحكمه الآن سمات مشتركة وليس مواقف مشتركة، وأبرز هذه السمات هي سمة الانتظار لما ستقرّره واشنطن بشأن قضايا عربية داخلية وإقليمية!
عسى أن يدرك العرب أنّ »محور الشرّ الثلاثي« بالنسبة لهم هو مزيجٌ من خطط »الخارج« ومن واقع »الداخل«، وما بينهما من عدوٍّ إسرائيلي، وبأنّ مواجهة هذا المحور الثلاثي لا تتمّ بداية إلّا بإصلاح أوضاع الذات، وعندها ينجح العرب في التعامل مع تحدّيات النفس ومع مشاريع »الآخر«.