التحرّك الأميركي يتواصل لإعادة التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين، تحت حجّة السعي الأميركي لإعلان دولة فلسطينية، وهو سعيٌ نحو المجهول، إذ لا يوجد موقف أميركي واضح من حدود هذه الدولة المنشودة أو عاصمتها أو طبيعة سكانها، أو مصير المستوطنات، أو مدى استقلاليتها وسيادتها.
إسرائيل هي المستفيد الأوّل ممّا يحدث في المنطقة العربية طالما أنّ الواقع الفلسطيني تحديداً والعربي عموماً هو على حاله من التشرذم والصراعات وانعدام وحدة الموقف، ومن الفوضى في العلاقات والبرامج والمؤسّسات، ومن أولوية مصالح الحكومات على الأوطان، فالفوضى في الحقّ لا يمكن لها أن تغلب الباطل المنظّم.
ثمّ متى كانت القدس قضيّةً خاصّةً فقط بالفريق الفلسطيني المفاوض بينما هي مدينة مقدّسة معنيٌّ بها وبمستقبلها، في ظلّ محاولات تهويدها لخمسين عاماً، عموم المسلمين والمسيحيين في العالم؟!.
بداية المشكلة كانت حينما قام الرئيس المصري السابق أنور السادات بتوقيع المعاهدة المصرية/الإسرائيلية في العام 1979، متراجعاً عمّا كانت عليه مصر من موقف مبدئي بعد حرب العام 1967 بأنّ «القدس قبل سيناء، والجولان قبل سيناء، والضفّة وغزّة قبل سيناء».
ثمّ تكرَّس هذا النهج في التسويات مع إسرائيل من خلال توقيع اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظّمة التحرير الفلسطينية، «حيث أثبتت الأعوام الماضية أنّ ما جرى إنجازه ليس هو الاعتراف بحقّ وجود الوطن الفلسطيني بل بقيادة منظّمة التحرير الفلسطينية»، التي تحوّلت عملياً إلى قيادة لسلطة فلسطينية على الشعب الفلسطيني المقيم فقط بالضفّة الغربية المحتلّة.
لعلّ رؤية ما حدث في السنوات الأخيرة، وما زال يحدث، من إشعال لحروبٍ ومناخات انقسامية داخلية في العديد من البلدان العربية، لَتأكيدٌ بأنّ ما يتحقّق على الأرض العربية هو خدمة المشاريع الإسرائيلية الهادفة إلى تفتيت المنطقة العربية وأوطانها إلى دويلات طائفية ومذهبية متصارعة.
الهدف هو تكريس إسرائيل وطناً لليهود بشكلٍ موازٍ مع تدمير وانهيار الأوطان الأخرى في المنطقة.
كثيرٌ من سياسات واشنطن وحروبها الأخيرة كانت من أجل مصالح إسرائيلية لا مصالح أميركية، وحينما تحاول أية إدارة أميركية تحقيق مصالح «أميركا أولاً»، كما حاولت إدارة أوباما، تضغط القوى الصهيونية داخل أميركا فيتمّ تصحيح الأولويات والقرارات لكي تتوافق مع الرؤى الإسرائيلية.
يتواصل المشروع الإسرائيلي الساعي لتفتيت ما هو مقسّمٌ أصلاً عربياً، كما تفرزه تفاعلات الأحداث الجارية حالياً في سوريا واليمن والعراق وليبيا، لإقامة دويلات دينية وإثنية تبرّر وجود الدولة اليهودية التي ستتحكّم في مصائر هذه الدويلات، وترث النظام العربي المريض كما ورثت اتفاقيةُ سايكس بيكو، في مطلع القرن الماضي، النظامَ التركيَّ المريض.
إنّ المنطقة العربية تعيش الآن مرحلة سقوط «النظام العربي الرسمي المريض» في ظلّ تضاعف الاهتمام الدولي بموقع المنطقة وثرواتها، وبوجود تأثير كبير للاحتلال الإسرائيلي على أحداثها وعلى القوة الدولية الأعظم في هذه الحقبة الزمنية.
هي مرحلةٌ لا يمكن الدفاع فيها عن واقع حال «النظام العربي الرسمي المريض» أو القبول باستمرار هذه الحال، لكن التغيير المنشود ليس مسألة أهداف وشعارات فقط، بل هو أيضاً ممارسات وأساليب سليمة ترفض استخدام العنف، وتمييز دقيق في المراحل والأجندات والأولويات والصداقات.
لقد كان المشروع الأميركي للمنطقة خلال حقبة بوش والمحافظين الجدد يقوم على فرض حروب وفوضى خلاّقة وشرق أوسط جديد، وعلى الدعوة لديمقراطيات فيدرالية تُقسّم الوطن الواحد ثمّ تعيد تركيبته على شكلٍ فيدرالي يحفظ حال التقسيم والضعف للوطن، ويضمن استمرار الهيمنة والسيطرة على ثرواته ومقدّراته وقرارته.
لا يخرج الحاكم الأميركي الآن، دونالد ترامب، عن هذه الرؤية للمصالح الأميركية، فهو قد يكون مع تغيير أشخاص وحكومات في بلدٍ ما، ولا يكون كذلك في بلدان أخرى، الأمر يتوقّف طبعاً على ظروف هذا البلد ونوع العلاقة الأميركية مع المؤسّسات القائمة فيه.
فما زال هدف التغيير الجغرافي في خرائط البلدان العربية أشدّ حضوراً من أمل التغيير السياسي الذي طمحت له بعض الشعوب العربية. لكنْ أيُّ نظامٍ ديمقراطي يمكن أن يستتبَّ حصيلة فوضى حروبٍ أهلية وتدخّلٍ عسكريٍّ خارجي؟!.
طبعاً ليست الخطط والمشاريع الإسرائيلية والأجنبية بمثابّة قضاء وقدر، فقد كان هناك في العقود الماضية مشاريع كثيرة جرى في أكثر من مكان وزمان إحباطها ومقاومتها، لكن ما يحدث الآن يختلف في ظروفه عن المرحلة الماضية.
ربّما المشكلة الأكبر حالياً هي في وجود مشاريع أميركية وأوروبية وروسية وصينية وإسرائيلية وتركية وإيرانية للتعامل مع متغيّرات المنطقة العربية أو لتوظيف حركة الشارع العربي لصالح أجندات غير عربية، لكن في ظلّ غيابٍ تام لأي مشروع عربي يُحافظ على وحدة أوطان هذه الأمَّة وعلى مصالحها، ويحفظ استقلال إرادتها وقرارها.