هناك شرخ كبير موجود الآن داخل المجتمع الأميركي بين تيار «الأصولية الأميركية» وتيار «الحداثة الأميركية»، وأيضاً بين من تتجذر فيهم العنصرية وبين الرافضين لها، فأميركا التي يعرفها العالم اليوم بأنها قامت على أساس دستوري سليم واتحاد قوي بين الولايات، هي أيضاً أميركا التي تأسست كونها مجتمعاً على ما يُعرف اختصاراً بأحرف: WASP والتي تعني «الرجال البيض الأنجلوسكسون البروتستانت».

والدستور الأميركي العظيم الذي جرى إعداده منذ نحو 230 سنة، كان معنياً به أولاً وأخيراً هؤلاء المهاجرون القادمون من أوروبا، والذين مارسوا العبودية بأعنف أشكالها ضد الأفريقيين المستحضرين للقارة الجديدة، إلى حين تحريرهم قانونياً من العبودية على أيدي الرئيس إبراهام لنكولن، بعد حرب أهلية طاحنة مع الولايات الجنوبية التي رفضت إلغاء العبودية في أميركا.

وقد كانت الانتخابات العامة في أميركا، قبل عقد العشرينيات من القرن الماضي، محصورة فقط بالرجال إلى أن حصلت المرأة الأميركية، بعد نضال طويل، على حقها بالتصويت. كذلك بالنسبة إلى أصحاب البشرة السوداء ذوي الأصول الأفريقية، حيث لم يحصلوا على حقوقهم المدنية إلا في عقد الستينيات من القرن الماضي.

حتى الشباب الأميركي، بين سن 18 و21، لم يأخذوا حقهم بالتصويت في الانتخابات إلا بعد حرب فيتنام التي كان من ينتمون إلى هذه الفئة من العمر هم أكثر ضحاياها، فجرى منحهم حق اختيار من يقرر مصير حياتهم.

وقد تعايشت «الأصولية الأميركية» مع كل هذه التطورات الدستورية والاجتماعية الهامة وأُجبرت على تقبل نتائجها، لكن ذلك لم يلغِ العنصرية الدفينة في المجتمع الأميركي، خاصة في الولايات الجنوبية التي انهزمت في الحرب الأهلية.

أيضاً، رغم أن النساء يشكلن أكثر من نصف عدد السكان، فإن نسبة تمثيلهن في الكونغرس محدودة، وكذلك في مراكز القيادة بالمؤسسات الحكومية والخاصة، ولم تحصل المرأة الأميركية بعد، في كثير من المواقع المهنية العامة والخاصة، على المساواة مع الرجل في قيمة أجور العمل.

ومن المهم أيضاً الإشارة إلى ما شهدته نيويورك وأماكن أخرى، في مطلع القرن العشرين، من حوادث دموية بين الأصوليين الأميركيين «الواسب» وبين المهاجرين الأيرلنديين الكاثوليك، كونه انعكاساً للصراع بين البروتستانت والكاثوليك في أوروبا.

أما أميركا الحديثة فهي غير ذلك تماماً، حيث الهجرة الكبيرة المتزايدة إلى الولايات المتحدة، في العقود الخمسة الماضية، من مختلف بقاع العالم، وبشكلٍ خاص من أميركا اللاتينية، بدأت تُغير معالم المجتمع الأميركي ثقافياً ودينياً واجتماعياً وسياسياً.

وقد احتضن «الحزب الديمقراطي» هذه الفئات الجديدة، بينما راح «الحزب الجمهوري» باتجاه محافظ ولد في ما بعد ظاهرة «حزب الشاي»، التي أصبحت قوة مؤثرة داخل تيار «الجمهوريين»، في مقابل نمو وتصاعد «التيار الليبرالي» وسط «الحزب الديمقراطي».

ووسط هذه البيئة السياسية والاجتماعية، جرت أحداث 11 سبتمبر 2001 وما لحقها من حروب إدارة بوش الابن (الجمهورية)، والتي سببت أضراراً اقتصادية وعسكرية وسياسية كبيرة للولايات المتحدة، وأدت إلى فوز المرشح الديمقراطي باراك أوباما في انتخابات العام 2008.

ووجدنا في العقد الماضي، خروجاً للقاعدة الشعبية في الحزبين الجمهوري والديمقراطي عن رغبات القيادات التقليدية، حيث ظهر دونالد ترامب في الحزب الجمهوري، وبيرني ساندرز في الحزب الديمقراطي، وكان الأول تتويجاً لهيمنة تيار محافظ وعنصري عند الجمهوريين بدأ مع ظهور «حزب الشاي» منذ العام 2009، والثاني (ساندرز) كان تأكيداً لقوة تيار سياسي متنور ظهر عند الديمقراطيين منذ المؤتمر الحزبي في العام 2004، وتكرس بفوز أوباما في العام 2008.

هذه المتغيرات تحصل في الحياة السياسية الأميركية منذ مطلع هذا القرن الجديد، وبعد تداعيات 11 سبتمبر 2001، حينما ارتبط موضوع الأمن الداخلي الأميركي بحروب كبيرة في العراق وأفغانستان، وبمسائل لها علاقة بالعرب وبالمسلمين، وبالأقليات الدينية والعرقية.

وبتضخم عدد المهاجرين اللاتينيين إلى أميركا، إضافةً طبعاً للدور الخطر الذي قام به من عُرفوا باسم «المحافظين الجدد» في تغذية مشاعر الخوف من «الآخر» لدى عموم الأميركيين، ما دعم أيضاً الاتجاه الديني المحافظ في ولايات عدة أميركية، خاصة بعد فوز أوباما بمنصب الرئاسة وخوف أصحاب هذا الاتجاه على نهاية عصر «أميركا البيضاء البروتستانت الأنجلوسكسون»!

فالمجتمع الأميركي قام أصلاً على العنصرية وضد كل المزيج الذي رمز له فوز أوباما في العام 2008. والعنصرية الأميركية هي مشكلة كبيرة وعميقة، وعانى منها الأميركيون ذوو البشرة السوداء لقرون طويلة، وشاهدنا في السنوات الأخيرة ممارسات عنصرية كثيرة حدثت في أكثر من ولاية.

وهي عنصرية متطورة ومتجددة الآن ضد كل أنواع المهاجرين الجدد من غير الأصول الأوروبية، وهي عنصرية شاملة حالياً للأقليات ذات الأصول الدينية الإسلامية، وقد أسهمت في إشعالها خطب دونالد ترامب وغيره من المرشحين الجمهوريين خلال الحملات الانتخابية في العام الماضي.

المجتمع الأميركي يشهد الآن صراعاً مهماً حول كيفية رؤية مستقبل أميركا وحول الاتجاه الذي سيسير نحوه هذا المجتمع. وهو المجتمع الذي قام تاريخه أيضاً على استخدام العنف، وما زال عدد كبير من ولاياته يرفض التخلي عن اقتناء الأسلحة الفردية وفكرة المليشيات المسلحة!

ربما نشهد حالياً المعارك الأخيرة لجماعات «أميركا القديمة»، وهي وإن نجحت الآن في إيصال ترامب للرئاسة، فإنها لن تستطيع وقف التقدم الأميركي نحو مستقبل مختلف عن معتقداتها، بسبب طبيعة التغيير الديموغرافي الحاصل داخل المجتمع الأميركي، وبسبب عدم قبول معظم الجيل الأميركي الجديد للمفاهيم والممارسات العنصرية.