عسى أن يحمل حجاج بيت الله الحرام هذا العام، في رحلة عودتهم سالمين بإذن الله، كثيراً من معاني الحج إلى أهلهم وقومهم، ففي تلك المعاني وحدها شفاء المجتمعات.
إن هناك معاني نبيلة عظيمة يمكن استخلاصها من الحج، وما في هذا التجمع السنوي البشري الضخم من مغزى، يتجاوز طبيعته كونه ركن عبادة متوجباً على من استطاع من المسلمين إليه سبيلاً، ففي الحج يلتقي، من بقاع الأرض قاطبة، ملايين من البشر.
ويتساوى على أرض مكة وفي مناسك الحج: الغني والفقير، الأبيض والأسود والأسمر، الرجال والنساء، والحاكم والمحكوم. وفي الحج أيضاً تظهر وحدة الجنس البشري ووحدة الدين الإسلامي، فلا تمييز في الحج ومناسكه بين عربي وأعجمي، ولا بين مسلم من هذا المذهب أو ذاك.
كذلك يرتبط الحج بوحدة الرسالات السماوية وبتكريس الإيمان بالله تعالى وبكل رسله وكتبه، فالأضحية في الحج والمزار المقصود فيه وكثير من مناسكه تتصل بالنبي إبراهيم، أبي الأنبياء، بمن فيهم موسى وعيسى وخاتم الأنبياء محمد، صلوات الله عليهم أجمعين.
هذه المعاني الكبيرة كلها تتكرر كل عام، على مدار أكثر من 14 قرناً، لأيام معدودة، ثم يعود الحجاج بعد أداء المناسك إلى أوطانهم وأقوامهم ليجدوها كما تركوها، مليئة بنواقض ما عاشوه من نبل معان وما أدركوه من دروس عظيمة في الحج، فالحجاج في زمننا هذا يعودون إلى أوطان عربية وإسلامية لا تتوافق أوضاع الكثير منها مع حقيقة حِكَم الحج ومعانيه.
إذ يعيش بعض هذه البلدان انقسامات حادة بين مسلمين ومسلمين، بينما جمعت مناسك الحج بين مسلمين من مختلف الفرَق والمذاهب والاجتهادات، والكل يعلم أن أحد أهم معاني الحج هو إظهار وحدة المسلمين في تجمعهم السنوي الهائل.
كذلك الأمر بالنسبة لأوطان تتعدد فيها الأعراق والإثنيات والطوائف، وبعضها يعاني الآن من حالات انقسام وتمييز، بما يتناقض تماماً مع ما نشهده في الحج من مظاهر الوحدة الإنسانية وغياب الفوارق بين الأجناس والأعراق.
يعود بعض الحجاج إلى أوطانهم ليجدوا في معظمها هذا الانقسام الاجتماعي الحاد بين الغني والفقير، وبين الحاكم والمواطن، وبين المحروم والمالك، بينما الدعاء في الحج «له الملك وحده، لا شريك له»!
يعود الحجاج إلى أهلهم وقومهم ليسمعوا منهم من جديد روايات وقصصاً عن خلافات بين أتباع هذا المذهب أو ذاك.
يعود الحجاج إلى حياتهم العادية ليلمسوا فيها وفي مجتمعهم هذا التمايز الكبير بين الرجل والمرأة، ولمفاهيم وممارسات مناقضة لما عاشوه في الحج من مساواة بين الرجل والمرأة في كل المناسك، فالاختلاط بين الرجال والنساء حلال في الحج وحرام في غيره!
إن الحج ليس عبادة وأداء مناسك فقط، يقوم بها المسلم من أجل التكفير عما مضى من ذنوبه، بل هو، كما صوم شهر رمضان المبارك، من أجل بناء مجتمع أفضل، ولتدريب الفرد على ما هو متوجب عليه تجاه الإنسان الآخر والجماعة عموماً، فالصائم الذي يدرك قيمة الجوع والعطش يشعر أيضاً بواجبه تجاه الآخرين والفقراء والمحرومين.
ولذلك سُمي شهر رمضان بشهر العطاء، والعيد من بعده هو عيد فطر الصائمين، الذين جمعوا بين حرمان النفس والعطاء للآخرين، فعيد الفطر وعيد الأضحى هما مناسبتان تتصلان بأعمال وسلوك وعطاء ومعان نبيلة وقيم لممارستها في مختلف الأزمنة والأمكنة.
وحبذا لو يكون عيد الأضحى، في كل عام، هو عيد احتفال المسلمين بتكريس معاني الحج وليس الاكتفاء فقط بالقيام بالأضحية وبتكريم حجاج بيت الله الحرام.
بعض الأوطان العربية والإسلامية ينطبق الآن عليها حال وصف مرض «ازدواجية الشخصية»، حيث في هذه البلدان تزداد على المستوى الفردي ظاهرة «التدين» واهتمام الناس بالعبادات الدينية، لكن مع ابتعاد كبير لهذه المجتمعات عن مبادئ الدين وقيمه وفروضه الاجتماعية تجاه الآخرين مهما كانت طوائفهم وأصولهم الإثنية.
إن الله عز وجل يقاضي الناس ويحاسبهم على أعمالهم بشكل فردي، فلا تُظلم، بلا ذنب، جماعة بأسرها، عائلة كانت أم قبيلة أم طائفة أم أمة، لأن أفراداً منها أساءوا.
وهذه الحكمة الإلهية جلية الوضوح في قوله تعالى: «ولا تزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أخرى»، إذ لا يجوز أن ينظر الناس إلى بعضهم البعض من مواقع عائلية أو قبلية أو طائفية، فيتم إما تكريم أشخاص وإما ظلمهم تبعاً لانتماءاتهم، لا بسبب كفاءتهم أو أعمالهم.
إن العرب خصوصاً، بحكم دور ثقافتهم ولغتهم في التاريخ الإسلامي، واحتضان أرضهم للمقدسات الدينية كلها، مدعوون إلى المراجعة والتساؤل عن مدى تطبيق الغايات النبيلة في ما هو منصوص عليه من قيم وواجبات دينية، فأين الالتزام بقول الله تعالى: (ولقد كرَمنا بني آدم) بغض النظر عن أصولهم وأعراقهم وألوانهم وطوائفهم؟
أين العدالة والمساواة والشورى وكرامة الإنسان في كثير من المجتمعات العربية والإسلامية؟ وأين الوحدة في هذه المجتمعات، لابد من التكافل الاجتماعي ومكافحة العوز والفقر، ولا بد من دعم دور الاجتهاد والعلم والعلماء في مواجهة الجهل وعلامات الجاهلية المتجددة، ولا بد من رفض التعصب والتمييز العرقي والإثني والطائفي.
فليعد المسلمون إلى جوهر إسلامهم، ليكونوا بالفعل «خيرَ أمةٍ أُخرِجت للناس» بعدما حملت رسالة تدعو إلى الإيمان بالله الواحد وبكتبه ورسله، لا تفرق بينهم، وتؤكد وحدة الإنسانية وعلى قيم العدل والمساواة بين البشر.