هناك الآن حالة انتظار تسود المنطقة العربية، لما ستسفر عنه هذه المرحلة من متغيرات سياسية وتطورات عسكرية، خاصة في معارك المواجهة المفتوحة حالياً مع «دويلة داعش» في كل من العراق وسوريا، لكن حتماً القوى الدولية والإقليمية الفاعلة ليست جالسة مكتوفة الأيدي ومكتفية بحال الانتظار.

فهي تعمل من دون شك على تهيئة نفسها لنتائج هذه المتغيرات، بل هي تحاول الآن استثمارها أو حرفها أو محاصرتها أو التحرك المضاد لبعض مساراتها. وهي كلها مسائل قائمة مرتبطة بمكان هذه المتغيرات وظروفها.

فالانتفاضات الشعبية العربية التي حصلت قبل أكثر من ست سنوات رآها البعض ظواهر مشرقة واعدة بغد أفضل، لكن النور الساطع لهذه الانتفاضات سرعان ما بهت بسبب التدخل الأجنبي، في ظل أجواء كانت أصلاً تنخر الجسم العربي وتهدد وحدة أوطانه، وتُسهل السيطرة الخارجية عليه، فالأمة العربية كانت تعيش قبل الانتفاضات الشعبية كابوس خطر التقسيم على أسس إثنية وطائفية ومذهبية.

وذلك حصل منذ الاحتلال الأميركي للعراق ثم بعده تقسيم السودان إلى جنوب وشمال. وكانت الأمة تخشى على نفسها من نفسها أكثر مما يجب أن تخشاه من المحتلين لبعض أرضها أو الساعين إلى السيطرة الكاملة على ثرواتها ومقدراتها.

وللأسف، فإن المعارضات العربية، التي كانت تواقة للديمقراطية، تساهلت مع مشاريع الهيمنة الأجنبية على أوطانها، بينما الشعوب العربية تدرك بوعيها الفطري الصادق أن لا فصل ولا انفصال بين حرية الوطن وحرية المواطن، وبأن الاستبداد الداخلي يخدم الهيمنة الخارجية، والعكس صحيح.

وكان القلق مشروعاً، والتنبه أيضاً، ممن يريدون أولوية المكاسب السياسية الفئوية، ولو من خلال إشعال الفتن الداخلية، وحيث هناك أشخاص جاهزون لخدمة أجندات أجنبية وإسرائيلية تبحث لها عن عملاء ووكلاء.

إن تحميل «نظرية المؤامرة» وحدها مسؤولية المصائب والمخاوف هي حتماً مقولة خاطئة ومضللة، فكل ما يحدث من «مؤامرات خارجية» يقوم فعلاً على استغلال وتوظيف خطايا داخلية، لكنه أيضاً «قصر نظر» كبير لدى من يستبعد دور ومصالح «الخارج» في منطقة تشهد الآن أهم التحولات السياسية والأمنية والجغرافية.

هناك في سيرة آدم عليه السلام، كما وردت في الرسالات السماوية، حكمة هامة، فإغواء الشيطان له ولحواء كان «مؤامرة خارجية»، لكن ذلك لم يشفع لهما بألا يكون هناك عقاب وتحمل مسؤولية.

الواقع الآن أننا نعيش زمناً إسرائيلياً في كثير من الساحات العربية والدولية. زمن يجب الحديث فيه عن مأساة الملايين من الفلسطينيين المشردين منذ عقود في أنحاء العالم، لا عن مستوطنين يهود يحتلون ويغتصبون الأرض والزرع والمنازل دون رادع محلي أو خارجي.

زمن إسرائيلي حتى داخل بلدان عربية كثيرة تشهد صراعات وخلافات طائفية ومذهبية تخدم المشاريع الأجنبية والإسرائيلية، في الوقت الذي تحتم فيه مواجهة هذه المشاريع أقصى درجات الوحدة الوطنية.

زمن تفرض فيه إسرائيل بحث مسألة «الهوية اليهودية» لدولتها، التي لم تعلن عن حدودها الرسمية بعد، بينما تضيع «الهوية العربية» لأمة تفصل بين أوطانها، منذ نحو قرن من الزمن، حدود مرسومة أجنبياً، وبعض هذه الأوطان مهدد الآن بمزيد من التقسيم والشرذمة!

وإذا كانت إسرائيل وأجهزتها الأمنية تتسلل إلى أهم المواقع السياسية والأمنية في دول كبرى ومنها حليفتها الكبرى أميركا، فكيف لا تفعل ذلك مع أعدائها «الجيران» لها؟ فرغم كل العلاقات الخاصة بين أميركا وإسرائيل، هناك العديد من العملاء الأميركيين الذين اعتقلوا بتهمة التجسس والعمل لصالح إسرائيل في مواقع أمنية أميركية مهمة، وبعضهم من خلال علاقتهم مع منظمة «الإيباك»، اللوبي الإسرائيلي المعروف بواشنطن.

وهل كان باستطاعة إسرائيل أن تغتال قيادات فلسطينية ولبنانية وعلماء مصريين وعراقيين في عواصم عدة لو لم يكن لديها العديد من العملاء والمرشدين في هذه الدول؟ من السذاجة طبعاً تجاهل كل ذلك واعتبار أن إسرائيل هي طرف محايد ومراقب لما يحدث في «جوارها العربي» المعادي لها.

إن إسرائيل، بلا شك، أحسنت توظيف الأخطاء الرسمية العربية، كما أحسنت توظيف الظروف الدولية والمشاريع الأميركية في المنطقة، لكن لإسرائيل مشاريعها الخاصة التي تتجاوز أجندة واشنطن أو موسكو أو غيرهما من قوى إقليمية ودولية، فإسرائيل لم ولن تتراجع عن مشروعها التفكيكي للبلاد العربية على أسس طائفية ومذهبية وإثنية.

هذه ليست «تخيلات وأحلاماً ومجرد مشاريع»، بل هي «ثوابت» إسرائيلية ملازمة للمتغيرات الحاصلة على الأرض العربية، وفي ظل حكومة إسرائيلية يقوم برنامجها على ما قاله نتانياهو في خطابه الشهير أمام الكونغرس الأميركي قبل عامين، ونال تصفيقاً حاداً حينما تحدث عن لاءاته:

لا لعودة اللاجئين الفلسطينيين، لا للعودة لحدود 1967، لا لوقف الاستيطان، ولا لتقسيم القدس التي ستبقى العاصمة الأبدية للدولة «اليهودية»، كما أشار نتانياهو إلى الآمال التي تضعها حكومته على حركة الشارع العربي: «الذي لم يعد يتظاهر ضد إسرائيل بل ضد حكوماته».

طبعاً ليست الخطط والمشاريع الإسرائيلية والأجنبية بمثابة «قضاء وقدر»، فقد كان هناك في العقود الماضية مشاريع كثيرة جرى في أكثر من مكان وزمان إحباطها ومقاومتها، لكن ما يحدث الآن يختلف في ظروفه عن المرحلة الماضية.