لو أنه قتل ما يقرب من الستين، وجرح أكثر من الخمسمائة من المدنيين الأبرياء لا يعتبر «إرهاباً» فماذا يكون الإرهاب بالضبط؟ ولو أن مرتكب حادث قتل مروع وصف بـأنه «أسوأ حادث قتل جماعي في تاريخ أميركا الحديث» ليس إرهابياً، فمن يكون «الإرهابي» إذن؟ أتحدث يقيناً عن جريمة لاس فيجاس التي راح ضحيتها كل ذلك العدد من المدنيين الذين كانوا يحضرون حفلاً موسيقياً في الهواء الطلق، فروعهم رجل فتح من الدور الثاني والثلاثين لفندق يطل على الحفل نيران أسلحته عليهم.

وهي في الحقيقة أسلحة وليست سلاحاً ذلك الذي ظل يطلق النار لأكثر من ثماني دقائق. وقد عثرت الشرطة في غرفة الرجل على عشر حقائب مليئة بالأسلحة ثم في منزله وسيارته على المزيد منها.

والحقيقة أن المشهد برمته كان جديراً بالتأمل حقاً، ولا يمكن سبر أغواره من دون إدراك أن المسألة العرقية لها مكانة بالغة التركيب والتعقيد في الوجدان والثقافة الأميركية عموماً.

فقد كان طبيعياً أن يظل الإعلام الأميركي يتابع الحدث منذ لحظة وقوعه وعلى مدار الساعة. لكن ولأن الشرطة الأميركية أكدت مقتل الجاني ولم تكشف عن هويته، فقد راح الإعلام الأميركي يركز على صديقته التي أعلنت الشرطة اسمها وقالت إنها تبحث عنها. ونشر الإعلام صورة السيدة على نطاق واسع، فكان واضحاً أن ملامحها الآسيوية هي جوهر تخمينات «خبراء الاستديوهات» الذين تم استدعاؤهم.

فلعل أمريكا «البريئة» ضحية لأجانب من أصول آسيوية.

ولا أخفي عن القارئ الكريم أن خبرتي المتواضعة في متابعة الشأن الأميركي جعلتني أدرك منذ الساعات الأولى أن القاتل رجل أبيض.

فالشرطة الأميركية لم تفصح في البداية عن هوية القاتل، ولكنها ومنذ ذلك الوقت المبكر للغاية عند وقوع مثل تلك الحوادث، وقبل أن تتم إجراء أية تحقيقات من أي نوع، استبعدت أن يكون الحادث «ذا علاقة بالإرهاب»، وأشارت إلى أن القاتل على الأرجح قام بتلك الجريمة المروعة «وحده». وكانت تلك التصريحات وحدها كفيلة بتوضيح أن القاتل أمريكي لا أجنبي وأنه من الرجال البيض.

فقد تعلمت من دراستي للشأن الأميركي أن فاجعة بهذا الحجم لن يطلق عليها «إرهاباً» إلا إذا كان مرتكبها من البيض. وفاجعة بهذا الحجم لن تقفز بصددها الشرطة لاستنتاج أن القاتل ارتكب جريمته بمفرده إلا إذا كان الرجل من البيض.

وما جرى طوال الأيام التالية لم يخرج مطلقاً عن المألوف أميركياً. فبمجرد أن أعلنت الشرطة اسم القاتل وهويته فعرف الإعلام أنه «رجل أبيض»، بدأ البحث أولاً عما إذا كان الرجل قد أعلن إسلامه.

بل خرج أحد «خبراء» الإعلام ليتساءل عما إذا كان القاتل قد تأثر بدعاية "داعش" ومخططاته حتى من دون أن يتحول للإسلام! وحين اتضح أن الرجل لم يسلم نسي الإعلام الأميركي تماماً حكاية الدين تلك في بلد حافل بديانات ومذاهب شتى يعتنقها البيض وغير البيض على السواء ! أما وأن الرجل أبيض وليس مسلماً، فقد قفز الإعلام مباشرة للفرضية المتهالكة حين يكون الجاني أبيض وهي مدى سلامة قواه العقلية وقدراته الذهنية.

وما إن تم التأكد من أن من قتل كل هؤلاء بدم بارد كان رجلاً أبيض لم يسأل أحد ما الذي كان ينبغي على «الرجال البيض» أن يفعلوه لئلا تقع مثل تلك الفاجعة.

وهو السؤال الذي عادة ما يتم طرحه لو أن القاتل مسلم أو أسود أو من أصول لاتينية. إذ يكون السؤال، ما الذي كان ينبغي على المسلمين في أميركا فعله أو ما الذي كان ينبغي على الدول المسلمة فعله؟ أو ما الذي كان ينبغي على الجماعة السوداء أن تفعله؟ ففي حادث لاس فيجاس لم يعامل كل الرجال البيض باعتبارهم مسؤولين عما فعله القاتل ولا تم اعتبارهم «جماعة واحدة» لا يوجد بداخلها تباينات ولا تعددية.

لم يسأل أحد مثلاً عن «أوضاع الرجال البيض» في أمريكا التي تجعلهم «أكثر عنفاً» من غيرهم.

وهو السؤال الذي عادة ما يسأله الإعلام لو كان القاتل أسود البشرة.

ورغم أن الإعلام بل الشرطة الأميركية انخرطا في ذلك العجز المفرط عن التركيز على الجريمة المروعة بعيداً عن المدلولات العرقية والإثنية، فإن الإيحاءات ذات المدلول العرقي والإثني لم تفت على الكثير من المواطنين الأميركيين أنفسهم.

فأفكار التفوق الأبيض لها تاريخها في المجتمعات الغربية عموماً.

وهي التي كانت مثلاً مسؤولة زمن الاستعمار عن ترويج التعبير القبيح «عبء الرجل الأبيض»، والذي كان يزعم أن المستعمر جاء بهدف نبيل هو نقل الحضارة والمدنية للشعوب غير البيضاء، وكأنها شعوب بلا حضارة ولا تاريخ! المفارقة هي أن أفكار التفوق الأبيض بقبحها صارت هي ذاتها عبئاً على مجتمعاتها التي تعاني من عنصرية مؤسسية تجعلها عاجزة عن اعتبار القتل هو القتل بغض النظر عن لون بشرة مرتكبه ودينه، وعاجزة عن التفرقة بين المجرم وكل من يشبهونه ظاهرياً في اللون أو الملامح.