لعلّ خير دلالة على التراجع الفكري الحاصل على مراحل في المنطقة العربية منذ أربعة عقود، هو تدني مستوى الشعارات المطروحة على المستويين الوطني والقومي.

حيث نرى الحركات السياسية ذات السمة الدينية، شعاراتها انتقلت من عموميات «الأمّة» إلى خصوصيات المذاهب والاجتهادات!! كما انتقل بعضها في أساليبه من الدعوة الفكرية إلى العنف المسلح وما يجلبه ذلك من ويلات لأصحاب هذه الحركات ولأوطانهم وللأمّة معاً.

أما جيل الشباب العربي، فقد أضحى أسير أحد خيارين، أحلاهما مرٌّ له ولأوطانه: السلبية القائمة على مفاهيم فردية نفعية، أو الاندفاع نحو حركات فئوية تفرّق ولا توحّد، وبعضها يخدم كيد الأعداء، حتى وهو يصارعهم!

الواقع العربي الراهن تختلط فيه مفاهيم كثيرة لم تُحسَم بعدُ فكرياً أو سياسياً. وهذه المفاهيم هي أساس مهم في الحركة والوسائل والأساليب، كما هي في الأفكار والغايات والأهداف. فما هو الموقف من التعددية بمختلف أنواعها داخل المجتمع، وما هي العلاقة بين حرية الوطن وبين حرية المواطنين؟

وكيف يمكن الجمع بين الديمقراطية وبين الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي في كل بلد؟ وهل طريق الديمقراطية يمرّ في تجزئة الكيانات إن لم نقل في إخضاعها للسيطرة الأجنبية أولاً؟

ثم ما هي آفاق الديمقراطيات المنشودة في بعض البلدان العربية من حيث القضايا العربية المشتركة، وهل ستكون «الشرق أوسطية» هي الإطار الجامع لدول المنطقة مستقبلاً، أم ستكون هناك خطوات جدّية نحو تكامل عربي شامل يعزز الهوية العربية المشتركة ويأخذ بالنموذج الاتحادي الأوروبي كصيغة مستقبلية للعلاقة بين الدول العربية؟

فالتغيير الإيجابي الذي حدث ويحدث في دولٍ من خارج الدائرة العربية كان دافعه الأول هو مرجعيات شعبية سليمة اختارت أيضاً من يحكم باسم شعوبها ومن يقود حركة تغيير مجتمعاتها. بينما المشكلة في «الثورات» العربية المعاصرة هي انعدام الثقة الشعبية بقادة هذه «الثورات» وبما عليه معظمهم من ارتباطات خارجية أو تحالفات مع قوى ظلامية تتصف بالإرهاب الفكري والعملي.

الأمّة العربية تحتاج الآن إلى مؤسسات مدنية ومرجعيات شعبية تسعى إلى تغيير الواقع على أسس سليمة، وبأن يتم ذلك في إطار منظومة فكرية، تقوم على التلازم بين حسم الانتماء لوحدة الهوية العربية وبين ضرورة التعددية الفكرية والسياسية في المجتمعات العربية. أي على قاعدة فكرية معاكسة لواقع الحال القائم الآن.

حيث تتصارع الهويات ضمن الدائرة العربية بينما تنعدم الأطر السليمة لتعدد الاتجاهات الفكرية والسياسية. الأمّة العربية تحتاج إلى مؤسسات وحركات شعبية ترفض تغيير الواقع بواسطة العنف والإكراه.

قانون التطوّر الإنساني يفرض حتمية التغيير عاجلاً أم آجلاً. لكن ذلك لا يحدث تلقائياً لمجرد الحاجة للتغيير نحو الأفضل والأحسن، بل إن عدم تدخل الإرادة الإنسانية لإحداث التغيير المنشود قد يدفع إلى متغيرات أشد سلبية من الواقع المرفوض.

إذن، التغيير حاصل عربياً بفعل التراكمات المتلاحقة للأحداث كماً ونوعاً في المجتمعات العربية، لكن السؤال المركزي هو: التغيير في أي اتجاه؟ هل نحو مزيد من السوء والتدهور والانقسام أم سيكون التغيير استجابة لحاجات ومتطلبات بناء مجتمع عربي أفضل؟!

هنا يظهر التلازم الحتمي بين الفكر والحركة في أي عملية تغيير، كما تتضح أيضاً المسؤولية المشتركة للأجيال المختلفة. فلا «الجيل القديم» معفي من مسؤولية المستقبل ولا «الجيل الجديد» براء من مسؤولية الحاضر. كلاهما معاً يتحمل مسؤولية مشتركة عن الحاضر والمستقبل معاً. وبمقدار الضخ الصحيح والسليم للأفكار، تكون الحركة صحيحة وسليمة من قبل الجيل الجديد نحو مستقبل أفضل.

وفي كل عملية تغيير هناك ركائز ثلاث متلازمة من المهم تحديدها أولاً: المنطلق، الأسلوب، والغاية. فلا يمكن لأي غاية أو هدف أن يتحققا بمعزل عن هذا التلازم بين الركائز الثلاث. فالغاية الوطنية أو القومية مثلاً لا تتحقق إذا كان المنطلق لها، أو الأسلوب المعتمد من أجلها، هو طائفي أو مذهبي أو فئوي.

إن التعامل مع سلبيات الواقع العربي الراهن والعمل لإيجاد بدائل إيجابية يتطلب الخروج أولاً من المأزق الذي يعيشه الفكر العربي المعاصر في كيفية تحديد جملة مفاهيم ترتبط بالهوية والانتماءات المتعددة للإنسان العربي، وبدور الدين في المجتمع، وبالعلاقة الحتمية بين حرية الوطن وحرية المواطن، وبالفهم الصحيح للمواطنية وللعلاقة مع «الآخر»، وفي التلازم المنشود بين الفكر والحركة.

فهناك قطاع كبير من العرب لا يجد أهمية الآن للأمور الفكرية أو للمؤسسات المهتمة بالفكر والثقافة، وهذه الفئة من العرب تجد أن الأولوية الآن هي للأمور الحركية والعملية، حيث لا يجوز إضاعة الوقت والجهد في قضايا «الفكر والتنظير»، بينما نجد في المقابل أن العديد من المفكرين العرب يكتفون بطرح الفكر ولا يساهمون في بناء المؤسسات التي تقدر على تحويل الأفكار إلى برامج عمل تنفيذية.

إذن، هي معضلة الآحادية في الحالتين: فالفكر هو الذي يحدد الأهداف المرجوة من أي عمل، وهو الذي يوفر وضوح الرؤية خلال مسيرة تنفيذ برامج العمل. لكن لا قيمة للفكر إذا لم يعالج عملياً مشاكل قائمة وإذا ما بقي أسير الكتب وعقول المفكرين. فالقيمة الحقيقية لأي فكرة تتحصل من مقدار تعاملها مع الواقع ومشاكله والقدرة على تغييره نحو الأفضل.