ليس النّاس بحاجةٍ إلى تأكيد فوائد الاختلاف في كلّ ما هو قائمٌ على هذه الأرض من بشرٍ وطبيعة ومخلوقات. ويكفي أن يسأل الإنسان نفسه: ماذا لو كان هناك صنفٌ واحدٌ فقط ممّا نأكل أو نشرب أو نرى من طبيعةٍ حولنا؟! ثمّ ماذا لو كان هناك نهارٌ بلا ليل رغم الحاجة القصوى للشمس في حياتنا؟! وكيف سيكون العيش لو كان المطر ينهمر بلا توقّف، أو لو كان الجفاف هو السائد في كلّ الأزمنة والأمكنة؟!.

رغم قناعة عامّة النّاس بما سبق ذكره، ورغم نصوص دينية واضحة عن أهمّية التنوّع والاختلاف فيما خلقه الله، كما قوله تعالى في القرآن الكريم: «وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ» سورة الروم، الآية 22. وكذلك ما ورد في سورة الحجرات، الآية 13:

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ».. رغم ذلك كلّه، نرى ما يحدث الآن في العالم من انتشار لظاهرتيْ التمييز والتعصّب على أسسٍ دينية وإثنية، ومن تحويل الاختلاف بالرؤى السياسية إلى خلافاتٍ شخصية بعضها داخل العائلة الواحدة.

وحتى لا يبقى الحديث في العموميات، فإنّ المشكلة ليست في مبدأ وجود خلافات وانقسامات داخل المجتمعات والأوطان، بل هي في كيفية انحراف الانقسامات السياسية والاجتماعية إلى مساراتٍ أخرى تُحوّل الاختلاف الصحي السليم في المجتمع إلى حالةٍ مرضية مميتة أحياناً، كما يحدث في الصراعات الإثنية والطائفية والقبلية.

فكثيرٌ من المجتمعات الإفريقية شهدت ولا تزال حروباً أهلية على أسس طائفية وإثنية وقبلية. كذلك مرّت القارّة الأوروبية بهذه المرحلة في قرونٍ مختلفة، وكان ما شهده عقد التسعينات من حرب الصرب في يوغسلافيا ومن الأزمة الأيرلندية هو آخر هذه الصراعات، رغم التحوّل الكبير الذي حصل خلال القرن العشرين في أوروبا وفي أنظمتها السياسية.

عوامل الانقسام وحالات الاختلاف ستبقى قائمة في أيِّ مجتمع مهما بلغ هذا المجتمع من تقدّم اجتماعي وسياسي ومن تفوّق علمي وحضاري ومن تطوّر دستوري مدني، لكن المهم ألّا تكون عناصر الانقسام السائدة فيه هي متأزّمة إلى حدٍّ يدفع لحدوث حروبٍ أهلية. فالتعدّدية، والتنوّع بمختلف أشكاله، هي سنّة الخالق الحتمية على هذه الأرض.

والطبيعة تؤكّد تلك الحقيقة في كلِّ زمانٍ ومكان. لكن ما هو خيار بشري ومشيئة إنسانية هو كيفيّة التعامل مع هذه «التعدّدية» و«التنوّع» على مستوى الجماعات، وضرورة اعتماد ضوابط للاختلاف على مستوى الأفراد بحيث لا يتحوّل الاختلاف في الرأي على قضايا عامّة، دينية أمْ ثقافية أمْ سياسية، إلى خلافٍ بين الأشخاص المختلفين.

إنّ المجتمعات الديمقراطية المعاصرة قد توصّلت إلى خلاصاتٍ مهمّة يمكن الأخذ بها في أيِّ مكان. وأبرز هذه الخلاصات هي التقنين الدستوري السليم لنظام الحكم ولتركيبة المجتمع ممّا يصون حقوق جميع المواطنين في البلاد بغضّ النّظر عن أصولهم العرقية أو عقائدهم الدينية. فعدم الالتزام بأساليب التغيير الديمقراطية يعني تحويراً للانقسامات السلمية (الناتجة عن التنوّع في المجتمع) نحو مساراتٍ صدامية عنيفة.

وهناك عوامل كثيرة تدفع بعض الناس إلى الانحباس في خنادق فكرية، فيعتقدون أنّهم بذلك يصونون أنفسهم من مخاطر جحافل «الفكر الآخر»، بينما هم في الواقع يسجنون ما لديهم من فكرٍ ورؤى، فلا «الآخر» يصل إليها أو يتفاعل معها، ولا هم يتطوّرون أو يكسبون فكراً جديداً، بل يبقون على ما هم عليه جامدين متحجّرين.

ومن دون شك، يرى صاحب كل فكر الصوابَ في فكره والخطأ في فكر غيره، لكنْ قليلٌ من الناس والأشخاص المفكّرين من يرى احتمال الخطأ في فكره أو احتمال الإصابة في فكر الآخر. فهذا منطلقٌ مهمّ لإمكان نجاح أي حوار أو تفاعل أو نقاش بين أفكار وآراء مختلفة، ومن دونه، ستسير الأمور في طريقٍ مسدود قد ينتهي عند البعض بالمقاطعة أو بالتخوين أو بالإساءات الشخصية.

وقد لمستُ أهمّية هذه المسألة في ندوات «مركز الحوار العربي» التي تجاوز الآن عددها 1035 ندوة، على مدار 23 سنة، حيث كانت أرضية هذه اللقاءات والندوات (ولا تزال) هي القناعة بوجود تعدّدية فكرية وسط أي جماعة بشرية، حتّى لو كانت هذه الجماعة عائلة واحدة، فكيف إذا كانت شعباً أو أمَّة؟!

أيضاً، فإنّ التوافق على فهمٍ مشترَك لمعنى أي مصطلح فكري هو المدخل الأهم لأي حوار فكري جاد. هذا الأمر ينطبق حتّى على ما يندرج تحت خصوصياتٍ قائمة داخل الأمَّة الواحدة. فالحلُّ لا يكون برفض المصطلح لمجرّد اختزان خلاصات عن تجارب محدّدة سلبية تحمل تسمية المصطلح نفسه، إذ المشكلة هنا أنّ المصطلحات كلّها تعرّضت إلى تجارب تطبيقية سلبية ومسيئة، في الفكر الإسلامي والفكر القومي والفكر العلماني، كما على صعيد شعارات الحرّية والديمقراطية والوطنية.

ومن غرابة الأمور، أنّ التشويه حدث ولا يزال يحدث في البلاد العربية لمصطلحات فكرية ولمفاهيم كانت هي الأساس في تغيير إيجابي في كثيرٍ من أرجاء الأمَّة العربية، وفي مراحل زمنية مختلفة، بينما تنتعش الآن مفاهيم ومصطلحات أخرى تحمل أبعاداً سلبية في الحاضر وبالمستقبل، إذا ما جرى الركون إليها أو التسليم بها.

إنّ الأمّة العربية تقوم جذورها الدينية والحضارية على التفاعل الذي جرى على أرضها وفي جوارها مع الأديان والحضارات الأخرى المختلفة، فالأمّة العربية هي مهبط كلّ الرّسُل والرّسالات، وفيها ظهرت قبل الإسلام حضاراتٌ كثيرة. كذلك في الدين الإسلامي دعوةٌ صريحة للتّعارف بين الشعوب ولعدم التفريق بين الرّسُل والأنبياء.

فهي أمَّة عربية مجبولة على التعدّدية وعلى حقّ وجود الآخر، وتقوم روحياً على تعدّد الرّسُل والرّسالات، وتقوم ديموغرافياً على تعدّد الأجناس والأعراق والألوان، وحضارياً على تجارب وآثار أهم الحضارات الإنسانية.