جيّد أن يحظى لبنان في مطلع الشهر القادم بانتخابات نيابية بعد مضي 9 سنوات على الانتخابات الأخيرة وتجديد المجلس النيابي لنفسه، لكن هل ستحمل هذه الانتخابات تغييراتٍ حقيقية في البنية السياسية الحاكمة للبنان أو في طبيعة النظام الطائفي فيه؟! الإجابة هي كلّا طبعاً، بل إنّها ستكرّس - من جديد - الحالة الطائفية المريضة في لبنان!.
تُرى، لماذا تُمارَس الديمقراطية في لبنان فقط من خلال الحصص الطائفية والمذهبية؟ ثمّ لماذا «تنتقل البندقية من كتفٍ إلى كتفٍ» على جسم هذا الزعيم أو ذاك، وتتغيّر تحالفاته الإقليمية والدولية، لكن لا يجوز عنده تغيير النظام السياسي الطائفي؟ أليس حالٌ كهذا هو المسؤول عن الاستقواء بالخارج كلّما دعت الضرورة؟
أوَليس ذلك هو السبب الأول لكثرة التدخّل الإقليمي والدولي في الساحة اللبنانية؟ فعطب الدّاخل هو الذي سهّل دائماً تدخّل الخارج، وبإصلاحه تتعطّل فاعلية التأثيرات السلبية الخارجية، وبذلك أيضاً ينتقل لبنان من حال المزرعة إلى لبنان الوطن والمواطنة.
إنّ لبنان يشكّل «حالة نموذجيّة» فريدة في المنطقة العربيّة. فهو كان، قبل بدء الحرب الأهلية في 13 أبريل 1975، نموذجاً للعرب في ممارسة الحياة السياسية الديمقراطية، والتعدّدية الحزبية، والانفتاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولمجتمع الحرّيات العامّة بشكلٍ عام.
لكن بعد اشتعال الحرب الأهلية في منتصف سبعينات القرن الماضي، انكشفت مساوئ هذا «النّموذج اللبناني» وما كان فيه من أمراضٍ طائفية، هدّدت الجسد اللبناني أكثر من مرّة بخطر الانتحار الداخلي أو القتل المتعمّد من الخارج.
ودارت الأعوام والأحداث في لبنان حتّى رست على صيغة اتّفاق الطائف عام 1989، والتي أثمرت وفاقاً لبنانيّاً مدعوماً بوفاق دولي/عربي على إعادة إحياء التجربة اللبنانيّة القديمة بطبعة جديدة منقّحة! وهكذا عاد «النموذج اللبناني الصّالح» إلى الوجود بالمنطقة العربيّة، رغم التشوّه الذي حدث له بفعل سنوات الحرب في عقديْ السبعينات والثمانينات.
لكن لبنان في العام 2005، وبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بدأ يتأرجح بين دفّتي الانقسام والفوضى، لاستبداله بعد ذلك بنموذج «الاقتتال الدّاخلي» وصراع الطّوائف والمذاهب والمناطق، وصيغ الكانتونات الفيدرالية الخاضعة للهيمنة الخارجية.
الحرب اللبنانية اختتمت بصراعاتٍ مسلّحة داخل كلّ منطقة بين ميليشيات وقوى المنطقة نفسها. وذلك يعني أنّ المراهنين على إشعال الساحة اللبنانية كانوا يريدون حروباً أهلية لبنانية وليس حرباً واحدة. يريدون الصراعات بألوان سياسية بينما واقع الحال هو موزاييك من القوى الطائفية والمذهبية، والتي إن تصارعت فلن تستبعد العنف المسلّح من أساليبها.
هناك سؤالٌ لبنانيٌّ مشروع عن ضرورة حصر العناصر المسلحة بالمؤسسات الرسمية فقط، لكن هذا الأمر أصبح، كما القضايا اللبنانية الأخرى، مادّة في صراع إقليمي/دولي ومشاريع سياسية للمنطقة.
هناك اتفاق بين كل القوى اللبنانية على الإشادة بدور الجيش اللبناني الآن، وبحكمة ووطنية قيادته، وفي حرص المؤسسة العسكرية على ضبط الأمن عموماً في لبنان دون المسّ بحقّ حرّية التعبير بأشكاله كافّة.
لقد حصل «اتفاق الطائف» في العام 1989 ليرسم هدفاً للقوات المسلّحة اللبنانية: (يجري توحيد وإعداد القوات المسلّحة وتدريبها لتكون قادرةً على تحمّل مسؤولياتها الوطنية في مواجهة العدوّ الإسرائيلي)، كما ورد في الفقرة (ج) من البند الثاني من وثيقة الطائف. وكان هذا النص أمراً مهمّاً جداً على صعيد بناء المؤسسة العسكرية اللبنانية، لكن هذا البناء السليم عسكرياً لم يقترن ببناء سياسي جيّد لتنفيذ «اتفاق الطائف».
فقد اقتسم الحاكمون منذ عام 1990 الحكم ومنافعه، وحاول كلّ طرف أن يجعل من نفسه ممثّلاً لفئة أو طائفة أو منطقة، فاستمرّت العقلية نفسها التي كانت سائدة قبل الحرب عام 1975، ونشأ جيل ما بعد الحرب في بيئة سياسية فاسدة معتقداً أنّ المشكلة هي في «الآخر» اللبناني، لكن لم يدرك هذا الجيل الجديد أنّ مشكلة وطنه ومشكلة مستقبله هي في التركيبة السياسية التي تتولّى ترميم البناء السياسي بعد كل أزمة.
وها هو لبنان الآن يعيش مزيجاً من تأثيرات التاريخ والجغرافيا على كيانه ونظامه، وعلى أمنه واستقراره، فماضي لبنان وتاريخ وظروف نشأة كيانه وكيفية بناء نظامه الطائفي، كلها عناصر تاريخية سلبية دائمة التأثير في أحداثه، تماماً كما هو أيضاً دور موقع لبنان الجغرافي.
وإذا كان اللبنانيون لا يستطيعون تغيير دور الجغرافيا في تطورات أوضاع كيانهم الوطني، فإنّ بإمكانهم حتماً تصحيح الخطيئة التاريخية المستمرّة في طبيعة نظامهم الطائفي السياسي. وعندما يفعل اللبنانيون ذلك يصونون وطنهم من الوقوع في شرك الحروب الأهلية من جديد.
إنّ الأمل بالتغيير والإصلاح في لبنان لا يمكن أن يتحقّق من خلال قيادات وآليات وقوانين طائفية ومذهبية. فالوطن اللبناني الواحد بحاجة إلى وطنيين توحيديين لا طائفيين. ولن تكون هناك دولة لبنانية قوية وعادلة ما لم تقم مؤسسات الدولة على أسس وطنية لا طائفية، فما يتمّ بناؤه على خطأ لا يمكن أن يصل إلى نتائج صحيحة. وأساس المشكلة هو في النظام السياسي الطائفي. ففي لبنان، الطائفية أولاً.. والوطن أخيراً!
الجيل اللبناني الجديد قادر على صنع «نموذج لبناني جديد جيّد» يقوم على الديمقراطية السليمة في الداخل، وعلى التحرّر من أي هيمنة خارجية، الجيل اللبناني الجديد مطالب بأن يعطي نموذجاً في الاحتكام للمؤسّسات المدنية وللوسائل الديمقراطية في العمل الشعبي والسياسي والتحرّك المدني الشعبي المنضبط، من أجل العمل مستقبلاً لانتخابات نيابية سليمة تفرز ممثّلين حقيقيين عن القطاعات الشعبية وليس ورثة إقطاع سياسي ومالي في هذه المنطقة أو تلك، أو في هذا الكانتون الطائفي أو ذاك.