انقسم الناس في كل الأزمنة والأمكنة على أنفسهم بين «الأنا» و«الآخر». فكانت الصراعات بين الأفراد والجماعات والأمم تخضع لاختلاف الرؤى وتناقض المصالح بين من هو في موقع «الأنا» ومن هو في الموقع «الآخر». هكذا هي سيرة البشرية منذ تناقض مفاهيم ومصالح قابيل ضدّ شقيقه هابيل، وكلاهما من أبناء آدم عليه السلام.
وغالباً ما يقع الناس في أحد محظورين: تسفيه الإنسان الآخر والتعامل معه بأقل من قيمته كإنسان، أمّا المحظور الآخر، فهو حينما ينظر بعض الناس إلى إنسان وكأنّه أكثر من إنسان، كأن يرفعوا من شأنه هذا الإنسان إلى ما يفوق بشريته.
في الحالتين: التسفيه أو التقديس للإنسان الآخر، هناك ظلم يحدث، فإمّا هو ظلم الإنسان للآخر من خلال تحقيره، أو هو ظلم للنفس من خلال تقديس من هو بشر مثلنا مهما علا شأنه أو عظم دوره الفكري أو العملي في هذه الحياة.
لذلك جاءت الرسالات السماوية واضحة في دعوتها للناس بعبادة إله واحد هو خالق كل شيء، وبالتأكيد على إنسانية الإنسان مهما ارتفع أو تدنّى في حدود القيمة الإنسانية. ونقرأ قوله تعالى: «ولقد كرّمنا بني آدم»، وفي ذلك ارتباط حتمي بين الإنسان عموماً في أي زمان ومكان، وبين الكرامة في الوجود والتكريم في الحياة والدور.
الرسالات السماوية وضعت الكثير من ضوابط السلوك الإنساني تجاه الآخر والطبيعة عموماً، لكن البشر الذين أكرمهم الله أيضاً بمشيئة الاختيار بين الخير والشر، لا يحسنون دوما الاختيار، فتتغلّب لديهم الغرائز على القيم، والمصالح على المبادئ، والأطماع على الأخلاق. فتكون النظرة إلى «الأنا» قائمة على مدى استغلال «الآخر» وتسخيره، وليس على المشترك معه من مفاهيم وقيم إنسانية.
ولعلّ لائحة المفردات التي تشمل: الاستعباد، العنصرية، الاستغلال، الاحتقار، الكراهية.. وغيرها من التعابير التي تصف رؤية أو ممارسات بعض الناس تجاه غيرهم، ما يلخّص مشكلة خروج الإنسان عن فهمه لنفسه وعن فهمه للآخر أيضاً.
وكم من حروب وصراعات دموية حصلت وتحصل لمجرّد وجود الإنسان «الآخر» في موقع طائفي أو مذهبي أو عرقي أو مناطقي مختلف، دون حتى أية معرفة مباشرة بهذا الإنسان «الآخر»!! فنفي وجود «الآخر» ونكران حقوقه هي مشكلة من لا يرى في الوجود إلا نفسه.
وكم يغفل الكثير من الناس عن حقيقة الوجود الإنساني في الحياة الأولى، وعمّا هو موعود يوم الحساب في الحياة الآخرة.
فكل البشر هم تواصل مع الإنسان الأول ومن سلالته، وحياتهم مرتبطة بالآخر، بينما تُحاسب كلُّ نفس في الآخرة على أعمالها فقط، ليكون الثواب والعقاب تبعاً لميزان العدل مع النفس والآخر، أو بتعبير آخر، بمقدار ظلم النفس و«الآخر».
وها هو العالم اليوم يعاني من تصاعد ظاهرة العنصرية، ومن تجاهل العدالة الاجتماعية، ومن غياب العدل بين النّاس، وحق كل إنسان في لقمة العيش والعمل والسكن والضمانات الصحّية والاجتماعية، بعدما انشغلت الأمم وتنشغل في صراعات حول قضايا الدين والقومية والديمقراطية، في ظلّ مشكلة انحسار المفاهيم الصحيحة لهذه القضايا الكبرى.
المعنيُّ بها كلّ البشر. أيضاً، ربّما لا نجد إنساناً إلاّ وشعر في يومٍ ما أنه تعرّض لما يمكن وصفه بـ«الطعن من الخلف». لكنّ من قال إنّ فعل الخير هو كالتجارة التي تبغي الربح في عملية بيعٍ وشراء؟!.
فمهما حصل «طعنٌ من الخلف» فإنّ فعل الخير لا يجب أن يتوقّف، وهو ما نجد التشجيع عليه في التراث الثقافي العربي بأشكال مختلفة:
«اصنع الخير في أهله وفي غير أهله، فإن لم تجد أهله فأنت أهله»... «ازرع جميلاً ولو في غير موضعه، فلن يضيع جميلٌ أينما صُنِع». وفي الحديث النبوي الشريف: «إنّ لله عباداً اختصّهم بقضاء حوائج الناس، حبّبهم في الخير، وحبّب الخيرَ إليهم، إنّهم الآمنون من عذاب الله يوم القيامة».
هذه هي الثقافة التي نحتاج إلى ترسيخها في عقول ووجدان الجيل العربي الجديد ليكون فعل وقول الخير أمراً لا يخضع إلى مساوماتٍ أو إلى شروطٍ مسبَقة.