تحتل منطقة الشرق الأوسط مكانة استراتيجية في النظام العالمي حتى يخيل لك أنه ليست هناك بقعة في العالم تعادل نفس أهمية هذا الإقليم، ومن هنا يبرز البعد الجيوسياسي لمنطقة الشرق الأوسط.
ولكن لجهة ضبط المفاهيم علينا أن نفرق بين مفهومين متلازمين ولكنهما مختلفان. المفهوم الأول هو الجغرافيا السياسية والثاني هو الجيوسياسية.
الأول يشير إلى الواقع الموضوعي لدولة من ناحية موقعها على الخريطة وهي في معظم الأحوال ثابتة إلا في بعض الحالات النادرة حين تحاول دولة تغير هذا الواقع إما بالدبلوماسية أو بالقوة العسكرية.
أما مفهوم الجيوسياسية فهو، بعكس الأول، ديناميكي ومتغير. فالجيوسياسية تنظر إلى الجغرافيا السياسية وانعكاساتها على أمن ورخاء الدولة في علاقاتها مع هذا الواقع أو المعطى ودلالاته.
فقد يتغير الواقع الجيوسياسي رغم ثبات الجغرافيا السياسية. فعلى سبيل المثال كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي يتنافسان على استمالة بعض الدول لتغيير الواقع الجيوسياسي لإقليم معين.
وليس هناك أبلغ مثال مما حصل في القرن الأفريقي في سبعينات القرن الماضي من تغيير للجيوسياسية رغم ثبات الجغرافيا السياسية بين الصومال وإثيوبيا.
حينها أصبحت الصومال موالية للغرب بعد عقد من تحالفها مع الاتحاد السوفيتي. وانقلبت إثيوبيا حليفة الولايات المتحدة والغرب لعقود حليفة للاتحاد السوفييتي.
وهناك عدة أمثلة من الشرق الأوسط والتي توضح كيف حصلت تغيرات في النظرة الجيوسياسية للمنطقة رغم استمرارية الجغرافيا السياسية وعدم تغيرها. ففي السبعينات، أيضاً، من القرن الماضي، حصلت تحولات جيوسياسية كبيرة بسبب معاهدة الصلح المصرية-الإسرائيلية والثورة الإيرانية.
وكان مهما بالنسبة للولايات المتحدة وبعض دول المنطقة إعادة التموضع لتلافي تداعيات هذين الحدثين الكبيرين.
وتمر المنطقة بتغييرات جيوسياسية مهمة قد تؤدي إلى تحولات عميقة في بنية النظام الإقليمي. فعلى سبيل المثال ترى إدارة الرئيس دونالد ترامب أن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني انتهت صلاحيته بسبب أن آخر الحروب بين الدول العربية وإسرائيل كانت حرب أكتوبر 1973.
وعلى السياسية الأميركية أن تنظر إلى المنطقة بنظرة مختلفة عن النظرة التي اتخذتها الإدارات المتعاقبة للسعي لإيجاد حل لهذا الصراع.
ولعل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل من قبل واشنطن أحد تجليات هذا الموقف الأميركي من الصراع. والأكثر من ذلك ترى الإدارة في إسرائيل الحليف الأهم وخاصة في المواجهة مع إيران والتي تسعى الإدارة في الدخول معها في مواجهة حازمة بسبب البرنامج النووي والاتفاقية التي يرفضها ترامب بصفتها اتفاقية سيئة وتسمح لإيران لتطوير برنامجها النووي.
ومن التغييرات الجيوسياسية المهمة هو انتقال موقع الثقل في العالم العربي إلى دول الخليج العربي والتي بدت تلعب دوراً إقليمياً ودولياً مميزاً.
ويعود السبب لنجاح سياسات هذه الدول الاقتصادية والاجتماعية والتي جعلت منها دولاً تمتلك أسباب القوة والمكانة والتي أكسبها اهتمام واحترام القوى العظمى والإقليمية على حد سواء.
ومع تردي أوضاع الدول العربية في الشرق الأوسط، إما بسبب الحروب أو الثورات الداخلية، فإن دول الخليج ستكتسب أهمية أكبر على المنظور القريب والمتوسط.
ونظراً للاهتمام المتزايد بمنطقة الخليج ليس بسبب التطورات الاقتصادية الكبرى وحسب، ولكن لأسباب جيواقتصادية تتمثل في أن الخليج مصدر الطاقة لدول آسيا والتي تعتبر المحرك الأول للنمو الاقتصادي العالمي. فإذا ما تعرضت منطقة الخليج إلى هزات فإن تذبذبات هذه الهزات ستصل إلى أصقاع بعيدة من المعمورة.
وإضافة إلى ذلك فإن هناك سبباً جيوسياسياً للاهتمام المتزايد بمنطقة الخليج والمتمثل بالتنافس العالمي بين القطبين الأميركي والصيني. فالنفوذ الأميركي في منطقة الخليج يعني أن الولايات المتحدة ستستطيع التأثير على أهم مصادر الطاقة بالنسبة للصين.
وفي هذه الخريطة الجيوسياسية تبرز أهمية الدور الإيراني في المنطقة. فكثير من الدول العربية، وخاصة الخليجية، تعاني من تمدد النفوذ الإيراني، بل والتدخل المباشر الإيراني في شؤون المنطقة.
وقد تبجح أحد القادة العسكريين بالقول بأن إيران باتت تحكم أربعة عواصم عربية. وكما أسلفنا فإن منطقة الخليج لها أبعاد بعيدة تتعلق بالنظام العالمي واقتصاديات هذا النظام.
وترى الإدارة الأميركية الحالية أن إيران هي مصدر عدم الاستقرار في المنطقة. وتعلن ذلك في استراتيجيتها للأمن القومي والذي يشير إلى أن إيران «عاقدة العزم على زعزعة استقرار المناطق، وتهديد الأميركيين وحلفائنا، واضطهاد شعوبهم بوحشية».
والآن ومع زيادة وصول طاقم السياسة الخارجية من الصقور، كما أن الدلائل تشير إلى عزم الرئيس الأميركي ترامب الانسحاب من الاتفاقية النووية مع إيران، فإن المشهد الجيوسياسي ينذر بعواقب غير محمودة.
ويقول رئيس الوزراء الإسرائيلي إن بلاده استطاعت أن تحصل على ملفات مخبأة في إيران توضح بجلاء خداع إيران في مسألة البرنامج النووي، وأن طهران لم تلتزم بالاتفاقية النووية.
الأهم في هذا الموضوع كيف سيتشكل المشهد الجيوسياسي لمنطقة الشرق الأوسط في ضوء هذه الأحداث التي تشي بتغيرات في المنطقة، وكيف ستحسم الدول العربية، والخليجية بالذات، أمرها في هذا المخاض العسير والذي سيكون له أثر بالغ على مستقبل المنطقة على المدى البعيد.