العديد من المفكّرين العرب يكتفون بعرض ما لديهم من فكر ولا يساهمون في بناء المؤسّسات التي تقدر على تحويل الأفكار إلى برامج عمل تنفيذية.

هي معضلةٌ: فالفكر هو الذي يحدّد الأهداف المرجوّة من أي عمل، وهو الذي يوفّر وضوح الرؤية خلال مسيرة تنفيذ برامج العمل. لكن لا قيمة للفكر إذا لم يعالج عمليّاً مشاكل قائمة وإذا ما بقي أسير الكتب وعقول المفكّرين.

ولأنّ الحركة السليمة هي التي تنبع من فكرٍ سليم... ولأنّ الفكر السليم هو الذي يستلهم نفسه من الواقع ليكون حلّاً لمشاكله، فإنّ المرحلة القادمة تستوجب من المفكّرين العرب العمل لبناء نهضة عربية تكون بديلاً لطروحات التطرّف الديني والسياسي، ومدخلاً لمستقبلٍ عربيٍّ أفضل.

لكنّ الوصول للنهضة يتطلّب التشجيع على الحياة الديمقراطيّة السليمة في كل البلاد العربيّة. كما تتطلّب الديمقراطية التمييز بين أهمّية دور الدين في المجتمع وفي الحياة العامّة، وبين عدم الزجّ به في اختيار الحكومات وأعمال الدولة ومؤسّساتها.

النهضة العربية تعني انتقالاً من حال التخلّف والفساد والفقر والأمّية إلى بناء مجتمع العدل وتكافؤ الفرص والتقدّم العلمي. مجتمع تشارك فيه المرأة العربيّة بشكلٍ فعّال في مختلف أوجه الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية.

الحال نفسه ينطبق على ما تعيشه الأمَّة العربية الآن من ظواهر انقسامية مرَضيّة بأسماء طائفية أو مذهبية أو إثنية، حيث ينظر البعض إليها من أطر جغرافية ضيّقة وبمعزل عن الفهم الخاطئ أصلاً للدين أو للهويّة القومية اللذين يقوم كلاهما على التعدّدية ورفض التعصّب أو الانغلاق الفئوي.

أيضاً، فإنّ الدعوة للنهضة العربية، والعمل من أجل الوصول إليها، يفرضان نبذ الإرهاب والالتزام برفض أسلوب العنف في العمل السياسي داخل المجتمعات العربية، وباختيار نهج الدعوة السلمية والوسائل الديمقراطية لتحقيقها.

طبعاً، النهضة العربية لن تقوم على «الفكر الديمقراطي» بمعزل عن حرّية الأوطان وهويتها العربية، أو عن وحدة المجتمعات وقضية العدالة الاجتماعية، فذلك يعيد الفكر العربي إلى «الأحادية» التي ميّزت في القرن الماضي الطروحات الفكرية العربية.

فالفكر الليبرالي العربي المتأثّر بالغرب كان في مطلع القرن العشرين يطرح نفسه نقيضاً للدين وللهويّة القومية، في مقابل تيّارات دينية أو قومية أحادية التفكير أيضاً.

ثمّ جاءت نهاية القرن العشرين لتسود فيها طروحات الفكر الإسلامي التي تصادمت في معظمها مع الهويّة القومية ومع المسألة الديمقراطية، كما إنّ معظم الحركات الدينية استباح استخدام العنف المسلّح ضدّ أبناء الوطن الواحد لمجرّد الاختلاف معهم أو بحجّة العمل لتغيير المجتمع!

فلا الفكر القومي العربي استقام في القرن العشرين على ركائز سليمة، ولا طروحات الفكر الديني كانت ناضجة وواضحة المفاهيم أو مكتملة العناصر، ولا الطروحات الديمقراطية وحدها الآن تغني من جوع أو تحرّر أرضاً أو تحفظ وحدة شعب. العرب هم بحاجة إلى فكرٍ معتدل ينهض بهم، وإلى تكاملٍ بين أوطانهم يُحسّن استخدام ثرواتهم، ويُحصّن مجتمعاتهم المعرّضة لكلّ الأخطار.

إنّ شعوب الأوطان العربية عانت وتعاني الكثير من جرّاء خلافات على ما حدث في التاريخين العربي والإسلامي من صراعاتٍ داخلية ومن أدوار أجنبية مختلفة، وهي مسائل جرت في الماضي ولا يمكن الآن تغييرها أو إعادة تصحيح أخطائها، بينما تقدر هذه الشعوب والطلائع المثقّفة فيها على تصحيح واقعها الراهن وحاضرها. فشرط نهضة العرب الآن هو تجاوز ما حدث في التاريخ، وتصحيح ما هو واقعٌ من انقسام في الجغرافيا العربية.

ولا يختلف اثنان في البلاد العربية على أهمّية الإصلاح السياسي والاجتماعي، لكن الخلاف هو على الوسائل والكيفيات. فالإصلاح الشامل المطلوب يحتاج إلى عملية تراكمية وتكاملية على مدى زمني طويل، لا إلى عمليات انقلابية عسكرية كانت في القرن الماضي تحصل من خلال الجيوش وهي تحدث في هذا القرن الجديد من خلال ميليشيات مسلّحة. فالوسيلة الناجعة هي بالدعوة السلمية والإقناع الحر وليس باستخدام العنف المسلّح الذي يشرذم الأوطان ويصل بها إلى الحروب الأهلية، ويُشرّع أراضيها لكل أنواع التدخّل الأجنبي.

الأمّة العربية تحتاج الآن إلى مؤسّسات مدنية ومرجعيات تسعى إلى تغيير الواقع على أسسٍ سليمة، وبأن يتمّ ذلك في إطار منظومة فكرية، تقوم على قاعدة فكرية معاكسة لواقع الحال القائم الآن حيث تتصارع الهويّات ضمن الدائرة العربية بينما تنعدم الأطر السليمة لتعدّد الاتجاهات الفكرية والسياسية. الأمّة العربية تحتاج إلى مؤسّسات ترفض الواقع، لكن ترفض أيضاً تغييره بواسطة العنف والإكراه.

Ⅶمدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن.