حتى عهد قريب كان العراق أخطر بلد في العالم، حيث كانت أعمال القتل الطائفية في أوجها قبل 12 سنة، وكان يتم قتل مائة شخص في المعدل كل يوم، وكان يتم استهداف الشبان بشكل خاص، وفي بعض الأحيان يتم وشمهم برمز صغير حتى يتمكن ذووهم من التعرف على هويتهم حتى لو كانت وجوههم مشوهة إلى حد بعيد.

ولا تزال الذكريات الرهيبة حاضرة في أذهان العراقيين: فحتى عام 2014، كانت عناصر «داعش» الذين استولوا على مدينة الموصل يتقدمون بسرعة نحو بغداد، ونشروا مقاطع فيديو على الإنترنت عن مذابحهم لترويع العراقيين وإحباط معنوياتهم.

وتأقلم الناس في بغداد ببطء مع الانحسار السريع للعنف منذ الاستيلاء على الموصل وهزيمة «داعش» قبل عام. ويعاني العراقيون الآن من أعمال عنف أقل من أي وقت مضى منذ الغزو الأميركي عام 2003. ومع ذلك، ربما تكون البلاد قد وصلت إلى نهاية فترة 40 عامًا من الحروب الأهلية والإقليمية.

بالحديث مع الناس في بغداد، أذهلني كيف أن الخوف من العنف ينحسر بصورة أبطأ بكثير من الواقع. إنني أكن احتراما كبيرا لغريزة البقاء على قيد الحياة لدى العراقيين، وأعرف أن التشاؤم الدائم بشأن المستقبل كان رهانًا آمنًا منذ تولي صدام حسين الحكم، وبعد ذلك بوقت قصير بدأت الحرب الإيرانية-العراقية في عام 1980. صديق في بغداد قال لي ذات مرة: «لا يمكن أن يثبت أي عراقي أنه مصاب بجنون العظمة لأنه يوجد في بلدنا دائماً شيء يخاف منه».

في الآونة الأخيرة كنت في ضواحي قضاء التاجي، وهي معقل للمقاتلين السنّة في شمال بغداد. التقيت بمزارع قال: «أعرف أشخاصاً من هنا لم يخرجوا إلى بغداد منذ 10 سنوات لأنهم خائفون من أن يتم القبض عليهم عند نقاط التفتيش الحكومية». وبعد عودتي من التاجي، طلب مني شخص في السيارة فك حزام الأمان، قائلا إن أي عراقي لا يضع الحزام، وأي شخص يضعه يحدد الباقون هويته كأجنبي.

أعلم أن شعوراً من القلق المستمر بشأن السلامة ينتاب العراقيين، فعند تدهور الوضع الأمني بعد عام 2003، كنت أعلق قطعة قماش على النافذة يفعل العراقيون ذلك عندما يشعرون بالأمان.

ومثل هذه الإجراءات الاحتياطية تستمر لفترة أطول من الضرورة القصوى لأن لا أحد يريد أن يعرف أنه قدم افتراضات مبكرة ومفرطة في التفاؤل حول غياب الخطر. ومع ذلك، فإن الثقة والشعور بالأمن بدأ يعود ببطء إلى بغداد: فقد يكون هناك عدد قليل من المباني الجديدة التي بدأت ترتفع في الأفق، لكن المطاعم الجديدة ومحلات الملابس ومراكز التسوق أصبحت تفتح أبوابها في كل وقت.

ولم تعد قذائف «داعش» تصل إلى بغداد بعد أن فقدت قواعدها. وقال مسؤول أمني حكومي: «يحاول مفجرون انتحاريون منذ عدة أشهر عبور الحدود السورية ويشقون طريقهم إلى بغداد لكن يتم توقيفهم في الصحراء في الوقت المناسب قبل وصولهم إلى العاصمة العراقية.»

وأصبح «داعش» أضعف من السابق بكثير ويتم اختراقها بسهولة من قبل المخبرين، وحتى لو نجح أحد الانتحاريين في الوصول إلى بغداد، فإن الهجمات المتكررة توقفت منذ بضع سنوات.

وتحسين الأمن يعني أن العراقيين بدأوا يركزون على الأمور الأخرى في الحياة التي لا حصر لها. لم يتغير المظهر العام كثيرا في بغداد منذ أن قدمت إليها للمرة الأولى في عام 1977 قبل أن تتدهور الأوضاع، وتم تركيز الموارد على شن الحروب أو سرقة بعض تلك الموارد من قبل المسؤولين عن إعادة الإعمار. ونتيجة لذلك، فإن البنية التحتية التي خصصت لنحو مليوني شخص هناك مخصصة الآن لسكان يزيدون على أربعة أضعاف، كما تعاني العاصمة من بعض أسوأ الاختناقات المرورية في العالم.

لقد ارتفعت عائدات النفط بسبب زيادة الإنتاج وارتفاع أسعاره عالميا، لكن ذلك لا يكفي لإنجاز الكثير بعد 40 سنة من الإهمال. ويشير المسؤولون العراقيون إلى أنه يدخل إلى سوق العمل في كل عام عدد يزيد على 400 ألف شاب، لكن لا يتوفر سوى عدد قليل من الوظائف لهم. ويعمل نحو 4.5 ملايين شخص في الحكومة، لا يمكن توظيف عدد أكبر، وهناك 6.5 ملايين يعملون في القطاع الخاص، والذين غالبا ما يكونون من قدامى الموظفين، وبعضهم يعمل في السوق الرمادية.

الدولة العراقية ضعيفة والانتخابات العامة الأخيرة غير حاسمة. ولكن على الرغم من كل هذه المشكلات، فإن الحياة في بغداد تعود تدريجيا إلى شكل من أشكال الحياة الطبيعية التي لم يعد فيها البقاء على قيد الحياة الشغل الشاغل لدى العراقيين.