ستكون الانتخابات النصفية الأميركية المقبلة هي الأهمّ في تاريخ مثيلاتها بالولايات المتحدة.
وهي انتخابات تحصل في منتصف عهد أي رئيس أميركي (ولذلك تُعرَف باسم الانتخابات النصفية)، وتكتسب أهمّية محدودة عادة رغم أنّها معنيّة بانتخاب كل أعضاء مجلس النواب وثلث أعضاء مجلس الشيوخ، وذلك بسبب أنّ نظام الحكم في أميركا يعتمد على النظام الرئاسي وليس على حكومة مرجعيتها البرلمان، ولذلك أيضاً يتمّ استخدام تعبير «الإدارة الأميركية» وليس «الحكومة» حيث الوزراء هم أشبه بموظّفين لدى الرئيس، يديرون معه وبإشرافه شؤون الحكم ومسؤولية السلطة التنفيذية.
لكن دونالد ترامب ليس كغيره من الرؤساء الأميركيين الذين سبقوه، وما حدث في النصف الأول من عهده هو الذي يُعطي هذه الأهمّية الكبرى للانتخابات المقبلة في نوفمبر.
فالحزب الجمهوري الداعم لترامب يُهيمن الآن على كل السلطات في الولايات المتحدة، على السلطة التشريعية في مجلسيْ الشيوخ والنواب، وعلى السلطة التنفيذية في «البيت الأبيض»، إضافة إلى أكثرية محافظة موجودة الآن في المحكمة الدستورية العليا. وهذا الواقع هو الذي يمنع عزل ترامب عن موقع الرئاسة حتى مع وجود كل الأسباب الموجبة لهذا العزل وحتّى من دون انتظار نتائج التحقيقات التي يديرها روبرت موللر بشأن الدور الروسي في الانتخابات السابقة.
وإذا استطاع الحزب الديمقراطي الفوز بغالبية أعضاء الكونغرس في نوفمبر، فإنّ عزل الرئيس يُصبح محتملاً من الناحيتين الدستورية والشعبية. فالأمر لم يعد يتعلّق في شؤون داخلية فقط، أو في كيفيّة إدارة سياسة خارجية، بل بجملة من القضايا التي أشعلها أعضاء في الكونغرس ومسؤولين في البيت الأبيض.
على جانب هناك الحزب الديمقراطي الذي بقي متّحداً ضدّ ترامب ومعظم سياسته الداخلية والخارجية، ويشهد الآن نشاطاً واسعاً للرئيس السابق باراك أوباما في ولايات أميركية عدّة دعماً للمرشّحين الديمقراطيين، إضافة طبعاً لاستمرار التحقيقات القانونية الجارية من قِبَل وزارة العدل وفي داخل الكونغرس حول علاقة روسيا بالحملة الانتخابية لترامب، وتأثيراتها على الناخب الأميركي في العام 2016.
وقد شهدت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عدداً غير مسبوق من عمليات العزل والاستقالات منذ تولّيه الرئاسة، حيث شملت وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي، وهناك احتمال بتغييراتٍ أخرى مقبلة.
ويبدو أنّ المحقّق موللر يدين بعض الأشخاص في قضايا قانونية لا علاقة لها بالتدخّل الروسي في الانتخابات، من أجل المساومة معهم على إعطاء معلومات تتعلّق بمهمّته الأساسية وهي الاتصالات السرّية مع موسكو.
وهذا ما حدث مثلاً مع المدير السابق لحملة ترامب، بول مانافورت وشريكه ريتشارد غيتس، اللذين جرى اتّهامهما بتبييض الأموال وعدم كشف حسابات مودعة في الخارج، إضافة إلى جورج بابا دوبولوس الذي كان مسؤولاً عن السياسة الخارجية في حملة ترامب الانتخابية. ولم يسلم أيضاً الابن البكر لترامب من التحقيقات حول اجتماعاتٍ جرت قبل انتخابات نوفمبر 2016، في برج ترامب، مع محامية روسية تعهّدت بتوفير معلومات تساعد على نجاح ترامب، ثم ما كشفه ستيف بانون بعد إقالته عن هذه الاجتماعات.
إنّ ما يحافظ على استمرار ترامب في «البيت الأبيض» حتّى الآن هو اعتماده على قوى فاعلة جدّاً في الولايات المتحدة.
فهو يعتمد أوّلاً على قاعدته الشعبية التي هي مزيج من الأنجيليكيين المحافظين (ومنهم نائبه مايك بنس) وجماعات شعبوية، ويعتمد ترامب أيضاً على دعم المؤسّسة العسكرية (بنتاغون)، حيث زاد في ميزانيتها مبالغ ضخمة حتّى وصلت إلى حوالي 700 مليار دولار، رغم العجز الكبير في الميزانية الأميركية والتخفيض الذي حصل في مشروعات مهمّة صحّية واجتماعية وتربوية.
أيضاً، يعتمد ترامب على دعم قوّتين ضاغطتين في الحياة السياسية الأميركية وفي الكونغرس، وهما «لوبي الأسلحة» و«اللوبي الإسرائيلي»، حيث لكليهما تأثيرات كبيرة على الجمهوريين والديمقراطيين معاً، إضافة إلى عددٍ كبيرٍ من الشركات والمصانع الكبرى التي تستفيد الآن من برامج وسياسات ترامب الداخلية والخارجية.
لقد كان من الصعب في القرن الماضي التمييز بعمقٍ بين برنامجيْ الحزبين الديمقراطي والجمهوري، لكن حتماً في محصّلة السنوات الأخيرة، أصبحت الخلافات تتّسع بين رؤى الديمقراطيين والجمهوريين لأنفسهم ولمستقبل أميركا ولعلاقاتها الدولية. ووجدنا هذه الفوارق واضحة في نهاية المؤتمرات الحزبية التي حصلت قبل الانتخابات الرئاسية.
هكذا هي الآن أميركا، وهكذا ستكون معركتها الانتخابية المقبلة، إذ لن تكون فقط حول الأمور الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تطغى في السابق على اهتمامات الأميركيين، بل ستكون حول مسائل ترتبط بالدين والعرق والثقافات وحول كيفيّة رؤية أميركا للمستقبل وللاتّجاه الذي سيسير نحوه المجتمع الأميركي.