ما حدث في مدينة بيتسبيرغ بولاية بنسلفانيا الأميركية من قتل عشوائي لمصلين في معبد يهودي هو من دون شك عمل إجرامي وحشي يُعبّر عن مدى حجم خطر العنصرية في أميركا.
لكن هذه العنصرية ليست فقط ضد اليهود الأميركيين بل هي تعادي وتستهدف كل من هم من غير الأصول الأوروبية البروتستانية ذوي البشرة البيضاء، فهؤلاء العنصريون الأميركيون قاوموا بالسلاح المهاجرين الكاثوليك منذ حوالي قرن من الزمن وقتلوا العديد منهم في مدينة نيويورك، وهم أيضاً من يهدد العديد من المراكز الإسلامية في أميركا وحاولوا إحراق بعضها. حتى طائفة السيخ تعرض مركزها في ولاية ويسكونسن لهجوم مسلّح، أدّى إلى مقتل 7 أشخاص.
وإضافة لهذه العنصرية البغضاء ضد طوائف مختلفة، تزداد في المجتمع الأميركي ظاهرة الممارسات العنصرية ضد الأقليات الإثنية والعرقية رغم انتماء بعضها للطائفة البروتستانية كما حدث مع عدة كنائس للأميركيين الأفارقة، كان آخرها محاولة الاعتداء المسلّح على كنيسة في ولاية كنتكي بعد يومين من الهجوم الأخير على المعبد اليهودي، وكما جرى في العام 2015 من إطلاق نار عشوائي على مصلين بكنيسة في مدينة تشارلستون بولاية ساوث كارولينا.
هذه العنصرية الأميركية المتصاعدة تظهر أيضاً في المواقف الداعمة للإدارة الأميركية تجاه المهاجرين القادمين من أميركا اللاتينية، وجميعهم من أتباع الديانة المسيحية، فكيف بالمهاجرين من بلدان المنطقة العربية والعالم الإسلامي؟!.
وقد أكّدت عدة دراسات وأبحاث صدرت في العامين الماضيين أنّ نسبة جرائم الكراهية في أميركا ازدادت كثيراً منذ العام 2016 وما بعده بسبب التيار الشعبوي الذي قاده ترامب وأوصله إلى «البيت الأبيض»، فالعديد من الممارسات العنصرية كانت تجاوباً مع الشعارات والتصريحات التي أطلقها ترامب في حملته الانتخابية ثمّ في التجمعات الشعبية التي تحدث بها بعد انتخابه، لكن من الإنصاف القول بأنّ مسؤولية ترامب هي فقط عن تأجيج ما هو قائم ودفين في المجتمع الأميركي، بمعنى أنّ أميركا تعاني من ظاهرة العنصرية منذ تأسيس الولايات المتحدة، وشهدت حرباً أهلية دموية لعدة سنوات منذ قرنٍ ونصف قرنٍ من الزمن بسبب الصراع حول قانون تحرير العبيد الذي أراده الرئيس أبراهام لنكولن ورفضته الولايات الجنوبية.
وربما لو جاز اختصار أسباب ازدهار العنف العنصري في أميركا الآن لأمكن وضعها في ثلاثة عوامل تغذّي بعضها البعض: أولها العنصرية المتأصلة، وثانيها فوضى السلاح المستندة إلى التعديل الثاني من الدستور، وثالثها هو المناخ السياسي الحالي في الولايات المتحدة، لذلك ليس من السهل أبداً معالجة ما يحدث في أميركا الآن، خاصة بوجود «لوبي صُنّاع السلاح» الذي هو أقوى «لوبي» مؤثر في الكونغرس، وله مؤيدون وداعمون من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، مع تفوق لعدد الجمهوريين.
من دون شك، فإنّ العنصرية والعنف المسلّح سيكونان في ذهن كل من سيشارك في الانتخابات «النصفية» المقبلة، وستؤثر حتماً نتائج هذه الانتخابات على مسار القضيتين معاً، لكن العلاج الجذري لهاتين المشكلتين سيحتاج لزمنٍ طويل، ولدور أفعل للجيل الأميركي الجديد، ولقيادة سياسية نزيهة لا تخضع لتأثيرات قوى الضغط الفاعلة في الحياة السياسية الأميركية.
وما يلفت الانتباه بعد الاعتداء على المعبد اليهودي في بنسلفانيا هو هذا التجاذب الذي حصل وسط الجالية اليهودية، حيث أدان بعضها تصريحات ترامب التي رفض فيها أي تقييد لفوضى شراء الأسلحة، وبين مَن يخدمون المصالح الإسرائيلية، حيث سارعت إسرائيل لإرسال خبراء أمنيين للمساعدة في تأمين الحماية للمراكز اليهودية في أميركا، كما حاول رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو أيضاً استغلال الحادث سياسياً، وكأنه المسؤول عن شؤون اليهود في العالم كلّه!.
ولعلّ من المهم التوقف أيضاً عند كيفية تعامل معظم وسائل الإعلام الأميركية مع هذا الاعتداء على المعبد اليهودي، بوصفه امتداداً لمعاداة «السامية» في العالم، والتحذير من أي كتابات تُحرّض على معاداة اليهود، بينما لم نرَ هذا الإعلام يفعل أمراً مشابهاً حينما جرى الاعتداء والتحريض على مراكز دينية غير يهودية! فالقضية لا تتعلق باليهود فقط، بل بكل الأقليات الدينية والإثنية في المجتمع الأميركي، ولا يجوز هذا التوظيف السياسي من الجماعات الداعمة لإسرائيل التي سعت وتسعى لاعتبار أي نقد لإسرائيل هو بمثابة معاداة للسامية.
هذه هي المعركة الأخيرة لجماعات «أميركا القديمة»، فهي لن تستطيع وقف التقدّم الأميركي نحو مستقبل مختلف عن معتقداتها، بسبب طبيعة التغيير الديمغرافي الحاصل داخل المجتمع الأميركي، ولعدم قبول معظم الجيل الأميركي الجديد بالمفاهيم والممارسات العنصرية.
إنّ العنصرية موجودة في المجتمع الأميركي لقرون عديدة، وهي عميقة ضدّ الأميركيين ذوي البشرة السوداء، وهي عنصرية متجدّدة ضدّ كل أنواع المهاجرين الجدد من غير الأصول الأوروبية، وهي عنصرية واضحة ضدّ الأقليات الدينية الإسلامية واليهودية، فكيف لو اجتمعت مع ذلك كلّه فعالية قوى ضغطٍ ضخمة تجد ما يخدم مصالحها الداخلية والخارجية؟!.
نعم، هناك شرخٌ كبير موجودٌ الآن داخل المجتمع الأميركي بين تيار «الأصولية الأميركية» وتيّار «الحداثة الأميركية»، وأيضاً بين من تتجذّر فيهم العنصرية وبين الرافضين لها، فأميركا التي يعرفها العالم اليوم بأنّها قامت على أساسٍ دستوري سليم واتّحادٍ قوي بين الولايات، هي أيضاً أميركا التي تأسّست كمجتمع على ما يُعرف اختصاراً بأحرف: WASP التي تعني «الرجال البيض الأنجلوسكسون البروتستانت».
والدستور الأميركي العظيم الذي جرى إعداده منذ حوالي 230 سنة، كان معنيّاً به أوّلاً وأخيراً هؤلاء المهاجرون القادمون من أوروبا، الذين مارسوا العبودية بأعنف أشكالها ضدّ الأفريقيين المستحضرين للقارّة الجديدة.
المجتمع الأميركي يشهد الآن صراعاً مهمّاً حول كيفيّة رؤية مستقبل أميركا وحول الاتّجاه الذي سيسير نحوه هذا المجتمع. وهو المجتمع الذي قام تاريخه أيضاً على استخدام العنف، وما زال عددٌ كبير من ولاياته يرفض التخلّي عن اقتناء الأسلحة الفردية وفكرة الميليشيات المسلّحة.