أحصى المحققون من الشرطة الفرنسية، والنيابة العامة، في حقيبة أحد المتظاهرين المتهمين بالتخريب والتكسير خلال احتجاجات «السترات الصفراء» نظارتين لحمام السباحة.

وسبعة أقنعة للحماية، وآخر للغطس وخوذة تستخدم في التزحلق على الجليد، وواقياً لقصبة الساق، وآخر للظهر، ومسدساً للغاز وعدد 2 عصا كهربائية للدفاع الذاتي وزجاجات بلاستيكية وزجاجتين تحتويان على 2 لتر من البنزين.

وعندما سأله القاضي عن سبب تحضير هذه العدة والعتاد، إذا كان ينوى فقط التعبير عن احتجاجه السلمي ضد السياسات الحكومية أجاب قائلاً «إنه لا يعرف ما إذا كان قادراً على استعمال كل هذه الأدوات،.

وإن بعضها خاصة زجاجات البنزين كانت فقط لكى يظهر أمام أصدقائه قدرته على التحدي والمواجهة»، بين أن هذه الإجابة تتناقض مع ما توصل إليه المحققون من خلال رسائله المتبادلة مع رفاقه، التي أكد فيها استعداده للمواجهة وأحصى الأدوات التي يحملها ونقل خلالها- على حد زعمه- على لسان أحد أصدقائه العسكريين بأن النار أفضل!

تكشف واقعة هذا الشاب الذي لم يتجاوز عمره الواحد والعشرين ربيعاً عن مدخل مهم لتفسير العنف، الذي تخلل احتجاجات «السترات الصفراء» في فرنسا؛ والذي يتمثل في اعتبار اعتزام ممارسة العنف خلال هذه الاحتجاجات جواز المرور للحصول على تقدير زملائه وأصدقائه.

وما ينسحب على مثل هؤلاء الشباب، قد ينسحب على بعض الفئات الأخرى التي شاركت في هذه الاحتجاجات، لأنهم لا ينتمون إلى أحزاب أو نقابات أو تيارات سياسية لأقصى اليمين أو أقصى اليسار.

وإذا كان ذلك يفسر السلوك العنيف لبعض الشباب خلال هذه الاحتجاجات، فإن مشاهد العنف خلالها تعود في الغالب إلى أن هؤلاء المتظاهرين والمحتجين لا ينتمون إلى الأحزاب السياسية ولا المنظمات النقابية، فهم يرفضون بنسبة كبيرة، وفق الاستطلاع الذي أجراه عدد من الباحثين على 166 يمثلون عينة منهم، هذه المنظمات والأحزاب.

وفقدان هذا الانتماء الحزبي والنقابي لدى غالبية المحتجين، كان يعنى افتقاد هؤلاء لخبرة وتأمين تظاهراتهم ضد المخربين من الجماعات التي تنتمى إلى أقصى اليمين وأقصى اليسار.

لأن المنظمات الحزبية والنقابية قد راكمت خلال مسيرتها الطويلة خبرات تنظيمية وحركية لتأمين احتجاجاتها وتظاهراتها، من خلال مجموعات مهنية ومحترفة للحفاظ على النظام.

وتجنب الاصطدام بقوات الشرطة وتحقيق الأمن من خلال تشكيل مجموعات عمل تؤمن تنفيذ هذه المهام ومسؤولة عنها أمام القيادات السياسية والنقابية والحال أن احتجاجات السترات الصفراء قد أصبحت مفتوحة على مصراعيها لكل المتسللين من كل الجهات، الذين لهم مصلحة في تصفية الحساب مع الرئيس وحكومته من أنصار أقصى اليمين، الذي خسر الانتخابات الرئاسية الأخيرة.

من ناحية أخرى فإن المناخ السياسي الذي أعقب هذه الانتخابات قد أفضى عملياً إلى تزكية عدم الانتماء الحزبي والنقابي وفقدان الثقة فيه، بعد صعود ماكرون خارج الأطر الحزبية التقليدية من اليمين واليسار معاً.

بيد أن الأهم والأخطر مما سبق والذي دفع بالعنف المكبوت إلى واجهة هذه الاحتجاجات يتمثل في فقدان الأمل لدى النسبة الغالبة من المحتجين، التي تنتمى للطبقات الشعبية والشريحة الصغرى من الطبقة المتوسطة موظفين وحرفيين ومتقاعدين، فهؤلاء لم يعد لديهم ما يفقدونه من زاويتين، الأولى ضعف مداخليهم ورواتبهم.

والثانية زيادة الأعباء الضريبية عليها، ويزداد هذا الأمر حدة عندما لا تتوفر إجابة سريعة لمطالبهم، وفي التوقيت الملائم وتعيد لهم الاعتبار والتقدير والأمل في استعادة الاستقرار ومستوى المعيشة الذي يرغبون في استمراره.

ونتيجة لكل ذلك؛ فقدان الانتماء الحزبي والتنظيمي وضعف خبرة العمل في الشارع وفقدان الأمل، فإن المتظاهرين افتقدوا بالمثل لخبرة التفاوض والتدرج في تعيين المطالب وطالبوا بكل شيء هنا والآن وليس غداً.

قد يحقق العنف بعض التنازلات وبعض المطالب، ولكنها لا تعدو أن تكون مسكنات، قياساً بالتحديات المفروضة على المجتمع والدولة في فرنسا، ولكن العنف في جميع الأحوال يشل القدرة على صياغة حلول تتوافق مع تعزيز المكتسبات والحق في حياة كريمة للعاملين والمنتجين ومع تجاوز تحديات المنافسة الاقتصادية وتنظيم قدرة الاقتصاد على تجاوز عثرات الدين والعجز.

* كاتب ومحلل سياسي