بحلول عامين على بدء ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، انطلق الجدل، كالعادة، حول «مذهب الرئيس» في السياسة الخارجية، في وقت لم يعد فيه من الممكن، من الناحية العملية، الحديث أصلاً عن مثل ذلك المذهب.

والمقصود عادة بمذهب الرئيس هو الاستراتيجية الكبرى أو الفكرة الكبرى الحاكمة للسياسة الخارجية والأمن القومي للرئيس الأمريكي، والتي يمكن من خلالها فهم سياسة أمريكا حول العالم في عهده.

والحقيقة أنني، عبر دراستي الطويلة للسياسة والسياسات الأمريكية الداخلية والخارجية، لم أنظر يوماً لما يسمى «بمذهب الرئيس» إلا بحذر شديد، وباعتباره لا يعدو أن يكون حزمة من التحليلات المهمة، التي يقدمها مراقبون من داخل المؤسسة الحاكمة أو قريبون منها، ولكن لا يجوز للباحث المدقق الاعتماد عليها لفهم وتفسير قرارات السياسة الخارجية الأمريكية في عهد هذا الرئيس أو ذاك.

وأسبابي في ذلك متعددة.أول تلك الأسباب وأهمها على الإطلاق هو أن فكرة «مذهب الرئيس» مغالية في التبسيط وتغض الطرف بالكامل عن الطبيعة المعقدة لعملية صنع السياسة الخارجية الأمريكية والأطراف المختلفة الفاعلة فيها.

فمذهب الرئيس لا يأخذ في اعتباره مطلقاً الدور الجبار الذي يمكن أن يلعبه الكونغرس، إذا أراد، لعرقلة أجندة الرئيس الخارجية.

لكن دور الكونغرس في السياسة الخارجية لا يظهر فقط في شكل عرقلة الرئيس، وإنما في إقناعه أحياناً بالعدول عن بعض قراراته، بينما ينطوي في أحيان أخرى على خلق رأي عام رافض لقرار مهم.

والخلل في مفهوم «مذهب الرئيس» لا يقتصر فقط على إغفاله لدور المؤسسة التشريعية الأمريكية وإنما يتخطى ذلك لإغفال حتى التفاعلات داخل المؤسسة التنفيذية نفسها التي يقف الرئيس على قمتها. فالمنوط به تنفيذ «استراتيجية الرئيس الحاكمة» هو الهيئات والوزارات المختلفة.

والتفاعل بين تلك الهيئات والوزارات، بل وبينها وبين البيت الأبيض والرئيس شخصياً، له تأثيره على المخرج النهائي، أي السياسة النهائية التي تظهر في العلن. فليس خافياً مثلاً أن تلك الوزارات والهيئات لا تكون كلها على قلب رجل واحد.

فكم هي المرات التي دار فيها الصراع بين وزارتي الخارجية والدفاع، أو بين أجهزة الاستخبارات والوزارات بشأن سياسة بعينها، كما حدث مثلا أثناء الغزو الأمريكي واحتلال العراق.

وليس سراً أن التفاعل بين فريق السياسة الخارجية، بما في ذلك أجهزة الاستخبارات ومجلس الأمن القومي قد يؤدي لخروج الاستراتيجية التي رسمها الرئيس بشكل يختلف عما خطط له أصلا.

فالرئيس كينيدي مثلا كانت له استراتيجية محددة في خليج الخنازير تحولت عند التنفيذ إلى أزمة سياسية وفشل ذريع كان من بين أسبابه ضعف المنطق الذي انبنت عليه فكرة غزو كوبا، ثم العوار الذي انطوى عليه التنفيذ من جانب المخابرات المركزية، فضلاً عن عدم الرجوع للرئيس في الوقت المناسب بخيارات تضمن وقف العملية برمتها.

ولأن «مذهب الرئيس» تحليل يقدمه من يدورون في فلك المؤسسة الحاكمة، فهو يتسم بإحدى خواص فكر تلك المؤسسة، أي الولع بالقياس على أحداث وأزمنة تاريخية حتى ولو كانت مغايرة تماماً في طبيعتها. وهو سبب ثان لتوخي الحذر في التعامل مع «مذهب الرئيس».

أما السبب الثالث، فيتعلق بالفارق المهم بين الأفكار النظرية والواقع. فقد تكون الاستراتيجية أو الفكرة الكبرى، التي تسمى «مذهب الرئيس» لامعة وبراقة من الناحية النظرية ولكنها مغالية في طموحها، أو مختلفة كثيراً عن الواقع العالمي الذي تدور فيه.

لكن إلى جانب ذلك كله، صار عالم اليوم يفرض المزيد من الأسباب التي صار معها مفهوم «مذهب الرئيس» غير مفيد لفهم السياسة الأمريكية. فالعالم في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين صار أكثر تعقيداً من أي وقت مضى، الأمر الذي يستحيل معه على الولايات المتحدة، بل وعلى أية دولة بالمناسبة، أن تكون لديها استراتيجية واحدة تتعامل بها مع كل مناطق العالم وكل القضايا على السواء.

ففي أزمنة سابقة كان من الممكن للولايات المتحدة أن تتخذ مثلاً استراتيجية «انعزالية» كما كان الحال قبل الحرب العالمية الأولى. كما كان ممكناً أيضاً للولايات المتحدة، في فترة الحرب الباردة، وقبل انهيار الاتحاد السوفيتي، أن يكون لها استراتيجية واحدة حاكمة يسهل من خلالها ترتيب أولوياتها وتنظيم تعاملاتها مع أقاليم العالم المختلفة.

لكن عالم اليوم يختلف بشدة من حيث تعقيد مشكلات أقاليمه المختلفة واختلافها عن بعضها، وبالتالي تختلف طبيعة المصالح الأمريكية فيه. فكل نوعية من القضايا والمشكلات الدولية تتطلب نوعاً بعينه من الأفكار والاستراتيجيات للتعامل معها.

لذلك، أياً ما كان ما سيطلق عليه المراقبون «مذهب ترامب»، فالأمر المتيقن أن فهم السياسة الخارجية الأمريكية سيتطلب تحليلاً أكثر عمقاً بكثير من تطبيق فكرته الحاكمة على مناطقه المختلفة.