ثلاثون عاماً مضت على انهيار «المعسكر الشيوعي» الذي كانت روسيا تقوده لعقود من الزمن، وهو المعسكر الذي كان يضم، إضافة إلى جمهوريات «الاتحاد السوفييتي»، معظم أوروبا الشرقية، وتدور في فلكه دول عديدة في العالم، وتُحسب عليه أيضاً جمهورية الصين الشعبية التي اختلفت عقائدياً وسياسياً مع موسكو الشيوعية آنذاك، لكن كانت مشاكلها الداخلية، الاقتصادية والاجتماعية، لا تسمح لها بلعب أي دور هام عالمياً.

ولقد انتهى «حلف وارسو» مع نهاية «المعسكر الشيوعي» لكن لم ينتهِ معه «حلف الناتو» الذي سقط مبرر وجوده بسقوط الاتحاد السوفييتي، بل على العكس، فقد تمدد «الناتو» من أوروبا الغربية التي كانت ميدانه الأساسي إلى عدة دول في شرق أوروبا تجاور روسيا الاتحادية، وتحولت العاصمة البولندية وارسو إلى مركز مهم جداً لأنشطة «حلف الناتو» وخططه العسكرية.

وشهدت حقبة التسعينيات من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحالي سياسات أميركية تتصف بالهيمنة والتفرد في قيادة العالم كلّه وبالسعي لتطبيق مفهوم الإمبراطورية الواحدة المهيمنة على الكرة الأرضية بأكملها. وكانت حقبة التسعينيات هي العصر الذهبي لسياسة الأحادية القطبية الأمريكية في تزامن مع الخلل الكبير الذي حدث في القيادة الروسية، وحيث اعتمدت الولايات المتحدة أيضاً على مظلة «العولمة» لتبرير هيمنتها الاقتصادية والسياسية والثقافية في أرجاء مختلفة من العالم.

وقد عاش العالم مع بداية حقبة التسعينيات حالةً من صراع المفاهيم حول هوية العصر الذي دخلته الإنسانية بعد انتهاء الحرب الباردة بين القطبين الرئيسيين للعالم في القرن العشرين، هذه الحرب التي انتهت بانهزام وانهيار قطب المعسكر الشيوعي (الاتحاد السوفييتي) مقابل فوز وتعزيز قدرات المعسكر الرأسمالي (الولايات المتحدة الأمريكية).

فقد كانت الهوية السائدة سابقاً هي «صراع الشرق والغرب» أو «الصراع بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الرأسمالي»، ولم يكن مطروحاً (أو حتى مقبولاً في قلب كلّ معسكر) الصراع على أساسٍ ديني أو قومي. فالشيوعية والرأسمالية التقتا حول فلسفاتٍ ومناهج مادية لا تنطلق من خصوصياتٍ قومية أو دينية، ولا تعير اهتماماً للقيم الدينية أو للسمات الثقافية المميزة للشعوب. كذلك اشتركت الشيوعية والرأسمالية في التعامل مع المسألة الاقتصادية كأولوية تتجاوز حدود الدول والأمم وتتّسم بطابع العالمية لأفكارها وساحة عملها وبما يحقّق المصالح الخاصة لقطب كلّ معسكر.

وبسقوط المنافس الشيوعي العالمي، بقيت «الرأسمالية» وحيدة في طرحها لنموذجٍ سياسي واقتصادي وثقافي متكامل لا يمكن أخذ بعضه دون البعض الآخر. الصيغة السياسية للأنظمة الليبرالية هي الوعاء السياسي لمضمون «الاقتصاد الحر» والمنافسة التجارية الحرة، كذلك فإنّ بناء أنظمة سياسية واقتصادية «ليبرالية» يتطلّب «شرعية ثقافية» من المجتمع ومفاهيم وقِيَم تتماشى مع عناصر الفكر الرأسمالي، بحيث تتكامل العناصر الثلاثة: ثقافة - اقتصاد - سياسة، لتبني «المجتمع الرأسمالي الحر».

ولأنّ «المنافسة الحرة» هي أساس في النظرية الرأسمالية، فإنّ حواجز الحدود والثقافات يجب أن تسقط أمام رواد الرأسمالية من مفكرين واقتصاديين وسياسيين. كذلك، فإنّ «المنافسة الحرة» تعني المنافسة وسط أبناء المجتمع الرأسمالي نفسه، وتكون نتيجة المنافسة محكومة بقانون «البقاء للأقوى». لذلك، كانت «العولمة» كنتاج طبيعي لوجود الفكر الرأسمالي نفسه والذي لا يعترف بحدودٍ جغرافية أو حواجز ثقافية.

ولأن الولايات المتحدة كانت رأس حربة المجتمعات الغربية الرأسمالية في مواجهة المجتمعات الشرقية الشيوعية، فإنّها اعتبرت نفسها المنتصر الأول بعد سقوط الكتلة الشيوعية، وهي – من وجهة نظر قياداتها الفكرية والسياسية والاقتصادية والأمنية - معنيّة بقيادة العالم كلّه وباستكمال نشر عناصر الدعوة الرأسمالية ومفاهيمها الثقافية والسياسية والاقتصادية. ولصالح أمريكا أولاً.

وهذه الرؤية الأمريكية الهادفة للهيمنة على أرجاء الأرض كلّها لا تريد معها شريكاً منافساً حتى ولو كان من داخل المجتمعات الغربية الرأسمالية نفسها. لذا، ترافقت محاولات الهيمنة الثقافية الأمريكية على الشعوب الأوروبية، مع فترة سقوط الاتحاد السوفييتي، حيث كان ذلك ضرورياً من وجهة النظر الأمريكية حتى لا تخرج أوروبا عن القيادة الأمريكية، وتبني لنفسها (في ظلّ خطوات الاتحاد الأوروبي) عناصر قوة مستقلة (ومنافسة) للقوة الأمريكية الرائدة الآن.

وقد امتزجت في مطلع التسعينات نظريتان مصدرهما الأساسي أمريكا، الأولى كان رائدها صموئيل هينيغتون، وعنوانها: صراع الحضارات (وتخللت نظريته مقولة الصراع الحضاري القادم بين الغرب والإسلام)، والثانية كان رائدها فوكوياما، وعنوانها: نهاية التاريخ (والتي وصلت إلى خلاصة مفادها أن الحضارة الغربية قد انتصرت على غيرها وهي الحضارة الوحيدة القائمة الآن). والنظريتان تكملان بعضهما البعض وتستهدفان العالم كله وليس فقط العالم الإسلامي تحديداً.

ثمّ جاءت أحداث 11 سبتمبر 2001 لتُغيّر الكثير مما كان عليه العالم، خاصة لجهة نتائج حربي أفغانستان والعراق على اقتصاد أمريكا، وعلى علاقاتها مع دولٍ كثيرة انتقدت الانفرادية الأمريكية في تقرير مصير العالم، وهي عوامل ساعدت على نجاح الرئيس فلاديمير بوتين بتحقيق نهضة روسية رافقها نمو اقتصادي واجتماعي وعلمي كبير للصين أيضاً.

ولعلّ التباينات بين السياسات الأمريكية والأوروبية ازدادت وضوحاً في العامين الماضيين بسبب ما قام ويقوم به الرئيس الأمريكي ترامب من خروج عن اتفاقيات تدعمها أوروبا كاتفاقية المناخ والاتفاقية حول الملف الإيراني، إضافة إلى رفض الدول الأوروبية دعم قرارات ترامب بشأن القدس والأونروا وفرضه لرسوم جمركية على الصادرات الأوروبية، وما قام به من تشجيع لبريطانيا بالخروج من الاتحاد الأوروبي ولكل التيارات الشعوبية التي عادت للظهور في المجتمعات الأوروبية.

إنّ الدول الغربية، أو دول العالم الرأسمالي، أشبه بجسم رأسه في الولايات المتحدة ودماغه في واشنطن، وحينما يحصل أي عطب في هذا الدماغ فإنّ الجسم كله ينعطب. وقد حدث ذلك اقتصادياً في عام 2008 حينما اهتزّ الاقتصاد الأوروبي بسبب الأزمة المالية في الولايات المتحدة. وها هي أوروبا تعاني الآن من أزمات سياسية واجتماعية بسبب أيضاً ما عليه واشنطن من أجندة ومن انتعاش للعنصرية والشعوبية في الولايات المتحدة. ويحدث ذلك كلّه بينما تزداد روسيا الاتحادية والصين قوةً وانتشاراً في قارات الأرض وفي فضائها. فالغرب الرأسمالي يتصدع بينما «الشرق» غير الإسلامي يتوسع الآن!