يُجمع عدد من باحثي الشرق والغرب على أن ابن خلدون، في مقدمته، من أهم عباقرة فلاسفة التاريخ، والعلوم الاجتماعية. وكلما عدتُ إلى مقدمته فإنها تزودني بأفكار تسمح بالتأمل والتأويل والتجديد.

فلنستمع إلى قول ابن خلدون الآتي: «الاجتماع إذا حصل للبشر كما قررناه وتم عمران العالم بهم، فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض، لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم. وليست آلة السلاح كافية في دفع العدوان لأنها موجودة للجميع، فلا بد من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض، فيكون ذلك الوازع واحداً منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة، وهذا هو معنى المُلْك».

إذاً، الأصل في المُلك، والملك يعني السلطة، الحيلولة دون احتراب الناس، وأكل بعضهم بعضاً، لما ينطوون عليه من نزعة عدوانية - حيوانية متأصلة فيهم.

وهذا القول الذي جاء في المقدمة سبق قول الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز في القرن السابع عشر في كتابه التنين، وسبق قول إنجلز في كتابه أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة في القرن التاسع عشر.

وهذا يعني أن أصل السلطة هو الحفاظ على التعايش السلمي بين الناس، وتحقيق الأمن بينهم، وردع النزعات العدوانية. والسلطة، أية سلطة، لا تستطيع أن تقوم بهذه المهمة إلا إذا حازت الاعتراف الحر من قبل المجتمع وناسه، وعندها تصبح السلطة والمجتمع خاضعين للقانون الذي يهدف إلى الحفاظ على الحق والسلم والأمن والحرية.

وإذا كانت السلطة، المُلك بالمعنى الخلدوني، قد تطورت إلى الحد الذي وصلت فيه البشرية إلى الحال الراهنة من التوافق مع المجتمع، فإن وجود سلطة تمارس العنف والاعتداء والنزعة الذئبية على أفراد المجتمع ضرب من حالة ما قبل الدولة، ونوع من التأخر والتخلف عن معنى الدولة الراهنة، وهي بهذا المعنى سلطة متناقضة مع الحاجة إلى السلطة، ومدمرة للحياة المعشرية، وتؤسس للصراع الدامي بينها وبين المجتمع الذي لا طاقة له بتحمل سلطة عدوان.

ولعمري فإن سلطة كهذه ستجعل من الأوطان ضعيفة، وعرضة للغزاة من كل الأنواع، وإلى هذا أشار ابن خلدون بعبقرية حين قال:

«إن الأمة إذا غُلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء، والسبب في ذلك، والله أعلم، ما يحصل في النفوس من التكاسل إذا ملك أمرها عليها وصارت بالاستعباد آلة لسواها، وعالة عليهم، فيقصر الأمل ويضعف التناسل، والاعتمار إنما هو عن جدة الأمل».

وإذا صدقت قصة امرئ القيس، فهذا يعني أن الاستنجاد بالغريب من أجل الملك قديم في تاريخ العرب، تقول الرواية بأنّ امرأ القيس قد ذهب لطلب النجدة من قيصر روما من أجل الثأر من قتلة والده من قبل بني أسد، وهو القائل:

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه

وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا

فقلت له لا تبك عينك إنما

نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا

إن استنجاد صاحب الملك من غريب من أجل الاحتفاظ بالملك لا يعني سوى فقدان الملك أصلاً، فالغريب القادم يأخذ الملك والأرض وما عليها. والأمثلة على صحة ما نقول لا حصر لها، فالسؤال الأهم الذي يطرحه الإنسان على نفسه: ما الذي يحمل دولة غريبة على نجدة سلطة حاكمة؟ وإذا كان السؤال ينطوي على نصف الجواب، فإن هذا السؤال ينطوي على كل الجواب.

ولعمري إن استنجاد سلطة ما بدول غريبة خوفاً من المجتمع، وبدافع إلحاق الهزيمة بالناس لهو أعلى درجات الخيانة العظمى، خيانة الناس والتاريخ والعقل والضمير.

* كاتب فلسطيني