«الصدور خلقت أقفاصاً كثيرة، هي الأشياء التي ترد إليها، وقليلة هي الأشياء التي تخرج منها، والأقفاص غالباً لا تتفهم لغة الأجنحة»، بتلك الكلمات الموجزة، أنهى بوب دينارد قائد الانقلابات العسكرية في أفريقيا، حديثه مع الصحافي الأفريقي الذي سأله ذات يوم، ما السر في اختيار جزر القمر ساحة لنشاطه العسكري؟
ارتبطت الحياة السياسية في جمهورية جزر القمر منذ استقلالها عام 1975، برجل البحرية الفرنسية سابقاً، والذراع العملية للاستخبارات الفرنسية لاحقاً، جوبتير أدون، أو بوب دينارد، مؤسس ما يسمى بالجيوش الخاصة، والذي جاء اختياره مباشرة من سيد أفريقيا في الإليزيه، جاك فوكار، مهندس استراتيجية فرنسا فريك منذ ستينيات القرن الماضي إلى اليوم.
بدأت مشكلة أرخبيل العطور، عندما صوتت الجزر الثلاث المكونة لجمهورية جزر القمر اليوم (نكازيجا، موهيلي، هيزوان)، لصالح الاستقلال عن فرنسا، ولأسباب سياسية واقتصادية، أغرقت باريس جزيرة مايوت، رابع الجزر المكونة لجمهورية جزر القمر، بعناصر سكانية موالية لها، للتصويت ضد الاستقلال، والإبقاء على الوجود الفرنسي فيها، فكان لباريس ما أرادت، وأصبحت مايوت إقليماً من الأقاليم الفرنسية التي تسمى أقاليم ما وراء البحار، ونالت اعتراف الاتحاد الأوروبي، بتبعيتها للأراضي الفرنسية، وبالرغم من كثرة الاحتجاجات القمرية في الأمم المتحدة ومجلس الأمن على ذلك، إلا أن الآمال القمرية كانت تتصدى لها باريس بقرار فيتو، رافضاً مناقشة الطلب القمري، ناهيك عن الاطلاع عليه.
وإمعاناً في السيطرة على مايوت، قامت فرنسا بإعطاء سكان تلك الجزيرة، كافة حقوق المواطنة التي يتمتع بها المواطن الفرنسي المقيم في باريس، وبدأت الشركات الفرنسية بفتح أفرع لها في قلب العاصمة مامودز، كشركة الاتصالات الفرنسية، فرانس تيلكوم، والتي أصبحت تحمل اسم شركة أورانج، كما نشطت حركة الطيران من مايوت إلى باريس، عبر طيران أوسترال الفرنسي، الذي تعزز دوره في التوجه من الأقاليم الفرنسية في جنوب المحيط الهندي، إلى وجهات دولية.
من الجدير بالذكر، أن جزيرة مايوت ليست هي الجزيرة الأفريقية الوحيدة في المحيط الهندي، الواقعة تحت الإدارة الفرنسية، فقد سبقتها جزيرتا تروملين ولاريونيون، التابعتان لدولة موريشيوس، وجزيرة دي نوفا، التابعة لمدغشقر، وهناك مقاطعة أديلي لاند، التي حصلت عليها فرنسا ضمن المعاهدة المعروفة باسم أنتارتيكا، وتقضي تلك المعاهدة بإعطاء أي دولة حصة من القارة القطبية الجنوبية، من أجل إجراء التجارب العلمية السلمية، والحفاظ على النظام البيئي للقارة، أو إقامة قواعد عسكرية، ولكنها تمنع التخلص من النفايات النووية أو القيام بأنشطة تعدينية.
يدرك الساسة في جزر القمر، أن تمسك باريس بجزيرة مايوت القمرية، جاء بعد توافد الشركات العالمية العاملة في مجال النفط على منطقة جنوب المحيط الهندي، بناءً على تقرير أكدت فيه شركة ديسكفر إكسبلوريشن، أن جزر القمر ومنطقة جنوب المحيط الهندي، مصنفة من الدول المنتجة للنفط في المستقبل، فوفقاً لنتائج الدراسات تحت الماء، التي أجريت في المنطقة الاقتصادية الخالصة.
فإنه يمكن لجزر القمر أن تنتج سبعة مليارات برميل من النفط، ناهيك عن الغاز، ومن هنا، بدأت باريس بتشديد الرقابة في الوصول إلى جزيرة مايوت، عبر سياسة تأشيرة تقيدية، ووسائل أمنية مكثفة، من رادارات وسفن ومروحيات، وقد نتفهم ما تقوم به باريس، إذا أدركنا أن أكثر ما تخشاه باريس، هو طلب مايوت العودة إلى جزر القمر الكبرى، فبعد احتجاجات مارس الماضي ضد السياسة الفرنسية، وانعدام الأمن، أدركت وزيرة أقاليم فرنسا ما وراء البحار، السيدة أنيك جيراردان، التي ساهمت في تهدئة المتظاهرين، أن الأمور في مايوت يجب ألا تخرج عن الإطار المحدد لها.
تعمل باريس اليوم على تأكيد حقوقها النفطية في المنطقة الاقتصادية الخالصة، التي تشترك فيها جزيرة مايوت مع جزيرة إنجوان، وأقصد بالمنطقة الاقتصادية الخالصة، هي المنطقة التي تتمتع فيها الدولة بحقوق خاصة، في ما يتعلق باستكشاف واستخدام الموارد البحرية، بما في ذلك إنتاج الطاقة من المياه والرياح، والفرق بين البحر الإقليمي والمنطقة الاقتصادية الخالصة، هو أن الأول يمنح السيادة الكاملة على المياه، في حين أن الثاني هو مجرد حق سيادي، يشير إلى حقوق الدولة الساحلية تحت سطح البحر، ومن الجدير بالذكر، أن فرنسا تمتلك أكبر منطقة اقتصادية خالصة في العالم، بسبب إداراتها وأقاليمها الخارجية العديدة المنتشرة في العالم.
أرى أنه ليس أمام باريس على المدى المتوسط، إلا أحد أمرين، إما أن تسعى إلى دفع تلك الأقاليم لتكون دولاً مستقلة استقلالاً شكلياً، يضمن استمرار المصالح الفرنسية، أو أن تقوم بحلحلة الصعوبات التي تواجه السكان في تلك الأقاليم، وتطويرهم، ما قد يدفع الأقاليم الأخرى بالانضمام إلى أقاليم فرنسا ما وراء البحار.