تاريخ البشر، لمن لا يعلم، تاريـــخان، تاريــخ يصنعه العقلاء الفاعلون في شروط تسمح لهم بصــناعته، فيزدهر التاريخ من كل جوانبه، وتكون الحضارة، وتاريخ يقوم بتدميره الحمقى بأهدافهم الوضيعة، فيدمرون الحـــضارة، وتسود مرحلة الانحطاط، التي تحمل البشر بعد حين للتفكير بالنهوض، وإقــامة قطيعة مع ماضٍ منحط.
وهذا ينطبق على كل تاريخ البشر بلا استثناء. فلقد عاشت العرب مرحلة من التاريخ العظيم، ازدهرت فيه العلوم والآداب والفنون والاقتصاد، وعاشوا كذلك عصر انحطاط في كل مجالات الحياة. وقس على ذلك أوروبا التي شهدت ازدهاراً في المرحلتين اليونانية والرومانية، وعاشت أسوأ حالات تاريخها انحطاطاً في القرون الوسطى.
وليس بخافٍ على أحد بأن الحمقى الذين يسلبون التاريخ روحه وسيرورته نحو الترقي هم مجموعة من الطغاة المتطفّلين على السلطة والحياة عبر قوة مادية همجية تحرق أخضر الأوطان.
والحمقى هم الآن في بلادنا ثلة من الطغاة الذين لا يفكرون إلا باستمرار طغيانهم، وميليشيات طائفية التي تضم ثلة من الأغبياء عقلياً وعاطفياً، والذين تحملهم مصالحهم الضيقة على إثارة الحروب والمنازعات بين أبناء الشعب الواحد.
لهؤلاء نقول: بما أنكم جهال في التاريخ العربي والعالمي، فإن الحرب بين البروتســتانت والكاثوليك في أوروبا استمرت ثلاثين عاماً 1618-1648، وحصدت ثمانية ملايين من البشر، بل إن تحويل الصراع إلى صراع طائفي في بلاد الشام والعراق واليمن سيحول حـــرب الثلاثين عاماً إلى مزحة، وحـــتى إيران لن تكون في مأمن من هذه الحرب القـــذرة التي تؤججها. إيران الداعمة لكل ميليشيات الوسخ التاريخي من القـــاعدة وداعـــش مروراً بحزب الله والحوثيين وانتهاءً بميليشيات الحـــشد الشعبي الطائفي.
إن مفهوم الدولة يتناقض كل التناقض مع وجود ميليشيات داخلها، فالدولة في أحد تعريفاتها هي سلطة تحتكر القوة لإنفاذ القانون والحفاظ على الحق، فيما الميليشيا هي واقعة عنفية عدوانية على القانون والحق، وكل سلطة دولة تؤســس ميليشيات لها، أو تستدعي ميليشيات لنصرتها لا تعود سلطة دولة، بل تتحول في جوهرها إلى إحدى الميليشيات المدمرة للحياة، وعندها فإن الميليشيات المسلحة تبتلع سلطة الدول وتعـــلن بــدء زوالها واقعياً.
وكما تنمو على الجسد الحي الذي لا يقوم بتنظيف نفسه الفطور والجرب، فإنه تنمو على جسد التاريخ أيضاً، والأخطر من ذلك عندما تقوم جماعات وحركات مهمتها المحافظة على الجرب التاريخي، والحفاظ عليه من خطر الزوال.
وجرب التاريخ وفطوره لا يزول وتزول إلا إذا تعرض جسده إلى الشمس واغتسل بسناءاتها، العقل والتنوير والتسامح والإنصاف والكرامة والهم الوطني والإنساني، والشموس لا ترتدي قناعاً، إن آن أوانها، ولا تلتفت للقشور، تشع وتشع حتى إذا ما أزهرت الحياة، وتناثرت، أعلنت الأرض ولادة التقدم والحرية، راحت الأوطان تغني. أنشودة الازدهار الكلي، من ازدهار الشخصية، إلى ازدهار المجتمع، من ازدهار الوجدان والضمير إلى ازدهار العقل، وعندها عندها فقط يبرأ التاريخ من الفطور التي نهشت جسده وهبشته.
والدرس التاريخي المهم المستخلص من تجربة العقد الماضي، والمستمرة حتى الآن في كثير من بلدان العرب التي تشهد الصراعات المسلحة، وما شابه ذلك هو إن سلطة مقصدها الانتصار على حقوق البشر، وعلى كرامتهم وكبريائهم، وتبني الأسوار العالية بينها وبين المجتمع وحاجاته وأهدافه وتطلعاته، لن تفعل سوى تدمير المجتمع، وتدمير نفسها في نهاية الأمر، وتترك البلاد والعباد نهباً للقاصي والداني.
* كاتب فلسطيني