لقد تحدثنا في مقال سابق عن نهاية الأيديولوجيات العربية وضرورة تجاوزها لكننا في هذه المقال ندعو إلى حل الأحزاب الأيديولوجية وما تولد عنها من عنف سلطوي وعنف ميليشياوي.

فلقد جاء حين من الدهر التهمت الأيديولوجيات الشمولية ولاءات العرب، وهذا أمر طبيعي، ففي لحظات موت الآمال الواقعة، تظهر الآمال الطوباوية. ولقد عاش الغرب مثل هذه الظاهرة، حسبنا أن نذكر بالشيوعية والنازية والفاشية.

ورغم ما يبدو من شمولية الأيديولوجيات العربية والقومية والشيوعية، فإنها تشير إلى ضيق الولاءات، فلم يعد الولاء إلى الوطن والحياة الواقعية الكريمة، وهو الولاء الواسع، بل إلى الفكرة الضيقة.

وكل انتماء ضيق يقود إلى ولاء ضيق، والعكس صحيح الانتماء الوطني الواسع يخلق الولاء الواسع.

إن الأحزاب الأيديولوجية الدينية وغير الدينية، من جماعة الأخوان المسلمين إلى حزب البعث وما بينهما من حزب الله وأنصار الله والدعوة والنصرة وداعش، والسوري الاجتماعي القومي والشيوعي، أحزاب لم تعد تليق بالحياة المعاصرة، ولا بالعقل السليم، ويجب أن تحل نفسها احتراماً للحياة وحفاظاً عليها، واحتراماً لمنطق التاريخ، والعقل السليم للعرب.

فهذه الأحزاب والحركات والجماعات المتولدة عنها، تدخل البلاد والعباد في حروب أهلية لا يعلم أحد حداً لها، والنتائج الكارثية لسلطتها لا حصر لها.

والشعارات التي ترفعها فإنما تستهدف البسطاء الذين أعياهم البحث عن سبل الخلاص من الفقر والاضطهاد وفقدان الكرامة.

من كان عالقاً في ورطة تاريخية وجودية نتيجة مزحة مزعجة من مزاح التاريخ ووجد نفسه في مأزق فالحل لا يكون بأحلام غير قابلة للتحقق، ومستحيلة، يتكئ عليها ديكتاتوريون هبشوا السلطة، أو يسعون إلى هبشها، ويكونون أحزاباً لا تكترث إلا بالوصول إلى السلطة، بل بالخروج من هذه الورطة المأزوقة بأقل الخسائر الممكنة عن طريق العودة إلى منطق الحياة الذي هو منطق العقل في هذه الحال. فما لا ينتمي إلى الواقع لا ينتمي إلى العقل، ومن لا ينتمي إلى العقل لا ينتمي إلى الواقع.

تأملوا معي أين هي شعارات حزب البعث في الوحدة والحرية والاشتراكية الذي حكم العراق وسوريا، أين هي شعارات حزب الدعوة الإسلامية في بعث الأمة الإسلامية وتحقيق دولة إسلامية، أين هي شعارات حزب أنصار الله في العداء لليهود وإسرائيل وأمريكا، أين هي شعارات الإخوان المسلمين في تحقيق الوحدة الإسلامية والحاكمية لله، أين هي شعارات الأحزاب الشيوعية في تحقيق المجتمع اللاطبقي وتحطيم الدولة؟ وقس على ذلك.

إن الأجيال الجديدة يجب أن تتحرر من هذه الأوهام، أوهام الأحزاب التي أغرتنا في يوم من الأيام بسحرها الخادع.

من سمات القوى الأيديولوجية المنهارة تاريخياً أنها تتحول إلى ظاهرة عنفية فقط، وتجرد كل أسلحة عنفها المادي واللفظي، ذلك لأنها تفقد ارتباطها بالحياة، وتناصبها العداء في حال من جنون القتل.

لسنا بلا قلب في علاقتنا بتفاصيل التراجيديا التي تعيشها بعض بلداننا ونعيشها معها، فالمآسي التي تتعرض لها شعوب العراق وسوريا واليمن وليبيا وغيرها من البلدان، تتطلب التحرر من وهم القوى الشمولية، سواء كانت بالسلطة، أو كانت حركات أصولية متخلفة.

وعندما ندعو الأحزاب الشمولية الإسلاموية والقوموية والشيوعية، ومن لف لفها إلى إعلان استقالتها من التاريخ، فلأننا خبرنا فشلها من جهة، وخبرنا عنفها، ونخبر عنفها. وإرادة صناعة البنية المتجاوزة يجب أن تظل بمأمن من هذه الأحزاب والأنظمة التي لا تعير بالاً للإنسان وحياته ومصيره وسعادته.

لم يعد الصمت ممكناً أمام الفجيعة، أجل لم يعد الصمت ممكناً.

* كاتب فلسطيني