«لكي نغير الواقع لا بد أن نفهمه والفهم الصحيح هو أن نقرأ الواقع من أعمق ماضي نذكره إلى أقصى مستقبل نتصوره والتاريخ في هذا الفهم ليس ركاماً من الأحداث نتسلى بها بل هو خبرة متراكمة نتعلمها لنبني مستقبلنا»، هذا ما حدثت به نفسي وأنا أقرأ المشهد السيراليوني الذي وقفت على أحداثه ميدانياً في سابقة وصفتها إحدى النخب السيراليونية التي مكنتني من الوصول إلى أغوار أفريقيا المجهولة بالمغامرة القاتلة ولم تعلم حينها بأن روح المغامرة تتملكني منذ نعومة أظافري.
السيراليون لمن لا يعرفها هي الدولة الأفريقية الأولى التي أصر شعبها على تعريفها بلغتهم الأم تحت اسم «الرومادونج» وتعني الجبال، وهي الدولة الأفريقية الأولى التي ساهمت بنشر العلوم الإنسانية والاجتماعية لعموم الغرب الأفريقي، وهي الدولة الأفريقية الأولى التي أسست وفي ظل الاستعمار أول جامعة على الطراز الغربي في غرب أفريقيا فاستحقت بذلك أن يطلق عليها المؤرخون منذ ذلك الوقت حتى اليوم اسم أثينا غرب أفريقيا بسبب دورها العلمي في نشر المعرفة منذ مئات السنين.
منذ أيام الجمهورية الأولى التي قادها الرئيس كريستوفر كول الذي لم يستمر في السلطة إلا يومان والسيراليون تقف متأهبة لأحداث جسام وفي كل مرة تجد لها مقعد انتصار، ولا أتصور أن هناك حدثاً أسوأ قد يحدث في فريتاون من تلك الأحداث التي خلفتها الجبهة الثورية المتحدة بقيادة ماسانغ مايوسو والذي اشتهر باسم فوداي سايبانا الذي قال عنه المدعي العام ديفيد كرين عند وفاته «إن وفاة فوداي منحته نهاية سلمية طالما أنكرها على الآخرين»، ولكن الذي لم يفطن إليه المدعي العام أن التخلص من أحجار اللعب في عرف المخابرات العامة لا يتم إلا بهذه الطريقة.
استعادت فريتاون عافيتها عام 2002 واستطاعت أن تجذب استثمارات خارجية مما جعلها سوقاً استهلاكية للمستثمرين في القطاعين الخاص والعام، وكان لدولة الإمارات دور في دعم الاستثمار السيراليوني، فلقد وقع صندوق أبوظبي للتنمية اتفاقية مع حكومة السيراليون لتمويل مشاريع الطاقة المتجددة وإنشاء محطات للطاقة الشمسية لتوليد الطاقة الكهربائية ومشاريع للألواح الضوئية، ومما عزز مكانة السيراليون في الفكر الاستراتيجي الغربي هو انضمامها لمنظمة الدول المنتجة للنفط في غرب أفريقيا وهذا ما يدعم أن تتحول إلى مورد أساسي للاقتصاد العالمي، خاصة أن النفط الأفريقي يتميز بمميزات معينة مثل انخفاض الكبريت وقربه من الأسواق الأوروبية والأمريكية وكلها عوامل عززت الأهمية الاستراتيجية لمنطقة غرب أفريقيا عموماً.
ما يعترض التنمية الاقتصادية في السيراليون اليوم مجموعة من التحديات منها: الاعتماد المُفرط على استغلال المعادن مثل الماس والذهب وذلك بسبب القناعة الشعبية أن تلك المعادن هي التي تأتي بالعملات الأجنبية والاستثمار، وهذا ما نتج عنه إهمال القطاعات الحيوية الأخرى مثل الزراعة، والتحدي الآخر هو تدهور الثروة السمكية، فلقد اتهمت فريتاون قبل أيام بكين بأنها تساهم في استنزاف المخزون السمكي للبلاد وذلك بسبب الصيد غير القانوني وذلك وفقًا لمجموعة غرينبيس البيئية، فالصيد غير القانوني أصبح يمثل ثلاثين في المائة من كميات الصيد التي تقوم بها الأساطيل الأجنبية الصناعية في سيراليون وذلك بسبب انخفاض الرقابة والمراقبة الناتجة عن سحب المساعدات التنموية مما شجع العمليات غير المرخصة، فما كان من فريتاون إلا أنها قامت في أبريل الجاري بحظر صيد الأسماك في مياهها الإقليمية ووقف صادرات شركات الصيد الكبرى لحماية مخزونها السمكي من النضوب، ومن الجدير بالذكر أن النظام الهيدروغرافي لمياه السيراليون يتميز بطبقة حرارية مستقرة نسبياً وضحلة تقع على عمق منتصف الجرف وتؤثر على توزيع الأسماك، إلا أنه في ظل تزايد أنشطة الصيد في مياه السيراليون أصبح من الضروري تحديد حجم الموارد السمكية المتاحة وعوائدها المحتملة مقارنة بالمستويات الحالية للحصاد من أجل التمكن من التحقق من الفوائد الاقتصادية الطويلة الأمد التي يمكن أن تتراكم من أنشطة تنمية مصايد الأسماك المختلفة وتطوير سياسات الإدارة.
أرى أن السيراليون قادرة على معالجة وتجاوز هذه التحديات خاصة أن هناك إرادة شعبية حقيقية لعدم العودة لعام 1991 وهو العام الذي سيطرت فيه الجبهة الثورية المتحدة بقيادة فوداي على المناطق الشرقية الغنية بالماس، وعلى الرغم من أن فوداي كان يقود عملية عسكرية ترفع شعار «كافئ نفسك» شجعت الجنود على قتل ونهب ما يقع في أيديهم، ذلك الشعار الذي وإن حسن معناه إلا أن شبح ما ارتكب باسمه سيظل يطارد أحلام أجيال شهدت توالي القرابين، إلا أن الشعب السيراليوني استطاع اليوم أن يحول ذلك الشعار إلى رؤية وإرادة ودينامية عمل لترسيخ المواطنة قبل أي شيء.