انتظر الأمريكيون والعالم إعلان نتائج تحقيقات روبرت موللر بشأن العلاقة بين التدخل الروسي في انتخابات العام 2016 وبين حملة الرئيس ترامب، لمعرفة حجم تورط الرئيس الأمريكي في هذه المسألة، لكن المحقق موللر اكتفى في تقريره بالتلميح وليس بالتصريح المباشر عن هذا التورط الرئاسي، تاركاً الأمر لمجلسي الكونغرس لمزيد من التعمق في التحقيقات، وللرأي العام الأمريكي بأن يبني استنتاجاته على ضوء ما يُنشر من تفاصيل التقرير والمواقف السياسية الملحقة به.

هل كان سبب غموض نتائج تحقيقات موللر عائداً إلى مخاوفه من حدوث فتنة داخلية في الولايات المتحدة، خاصة بعد تهديد ترامب أكثر من مرة بأنّ القاعدة الشعبية المؤيدة له لن تسمح بإدانته أو بقرار عزله من قبل الكونغرس؟!.

أيضاً، لقد مارس الرئيس ترامب في الانتخابات النصفية في شهر نوفمبر الماضي أسلوب الترغيب والترهيب على المرشحين من الحزب الجمهوري حيث نجح معظم من وقفوا معه وفشل من انتقدوه من «الجمهوريين»، فهو حتماً يملك تأثيراً كبيراً على القاعدة الشعبية للحزب الجمهوري التي هي الآن مزيج من تحالف العنصريين البيض ومن أتباع الطائفة الإنجليكية المحافظة ومن الداعين لانتشار السلاح وحقوق حمله.

إضافة إلى الدعم الكبير الذي يحظى به ترامب من شركات ومصانع كبرى وجماعات «اللوبي» الممثلة لها في ردهات مجلسي الكونغرس.

لقد جرت محاسبة الرئيس السابق بيل كلينتون في حقبة التسعينات والسعي لعزله، فقط لأنه أنكر أولاً علاقته مع الطالبة لوينسكي ونتيجة قضية مالية في ولاية أركنسو حينما كان حاكماً لها. وجرى دفع الرئيس السابق ريتشارد نيكسون إلى الاستقالة في حقبة السبعينات لأنه أنكر أولاً معرفته بتجسس الحزب الجمهوري على مكتب الحزب الديمقراطي في «عمارة واترغيت»، وهي المسألة التي كشفتها صحيفة «الواشنطن بوست».

إنّ طموحات ترامب لمنصب الرئاسة تعود لحقبة الثمانينات من القرن الماضي رغم عدم تولّيه لأي موقع سياسي في العقود الماضية كلّها. وهو سعى في العام 2000 للترشّح للرئاسة باسم «حزب الإصلاح» الذي تأسّس في مطلع حقبة التسعينات مع ترشّح رجل الأعمال الثري روس بيرو، لكن لم يُؤخذ ترشّح ترامب جدّياً رغم قيامه بحملاتٍ انتخابية في بعض الولايات.

إذن، الطموحات السياسية للثري ورجل العقارات دونالد ترامب، والتي كانت تتراوح بين منصب حاكمية ولاية نيويورك وبين رئاسة «البيت الأبيض»، عمرها عقود من الزمن، وهي لم تقف على أرضية انتماء فكري أو سياسي لحزب محدّد، بل انطبق على ترامب قول ميكيافيلي: «الغاية تبرّر الوسيلة»، وهذا ما فعله ترامب عقب فوز باراك أوباما بانتخابات العام 2008، حيث لمس حجم ردّة الفعل السلبية التي جرت في أوساط الجماعات المحافظة والعنصرية داخل المجتمع الأمريكي، نتيجة فوز أمريكي من ذوي البشرة السوداء وابن مهاجر أفريقي مسلم، بأهمّ موقع سياسي في أمريكا والتي ما زالت العنصرية متجذّرة في أعماق الكثير من ولاياتها الخمسين.

أيضاً، أدرك ترامب ما حصل داخل الحزب الجمهوري في العام 2010 من ظهور وتفوّق تيّار «حزب الشاي» المحافظ، والذي استطاع الحصول على غالبية أعضاء الكونغرس في الانتخابات النصفية، اعتماداً على التخويف الذي مارسه هذا التيّار من معاني فوز أوباما بالرئاسة الأمريكية، وعلى الحملات التي قام بها المرشّحون باسم هذا التيار ضدّ المضامين الاجتماعية الليبرالية لأجندة أوباما وضدّ المهاجرين عموماً. وحصلت آنذاك ممارسات ومواقف تتّصف بالعداء للمهاجرين والمسلمين في عدّة ولايات أمريكية، كانت تتزامن مع توزيع رسائل تمّ نشرها بالملايين عبر وسائل التواصل الاجتماعي تحذّر من خطر «أسلمة أمريكا» الذي بدأ بفوز باراك حسين أوباما!.

وكان ما سبق ذكره كافياً لدونالد ترامب لكي يحسم خياراته الفكرية والسياسية لصالح القوى المنتمية لهذه الجماعات اليمينية المحافظة، التي تحرّكت ضدّ كل ما كان يرمز له أوباما من أجندة ومن أصول إثنية وعرقية ودينية وسياسية، وبحيث تحوّلت هذه القوى إلى تيّارٍ شعبيٍ بنى عليه ترامب لاحقاً قوّة قاعدته الانتخابية والتي استطاعت تجاوز العديد من المرشّحين المعروفين في الحزب الجمهوري، وجعلت من ترامب رمزاً لها وتمكّنت من إيصاله إلى الرئاسة الأمريكية.

ودعم هذه القاعدة الشعبية له ينطلق من ضرورة عدم تكرار حقبة أوباما، وبأنّ عودة «أمريكا العظيمة».. أمريكا ذات الأصول الأوروبية البيضاء البروتستانتية، مرهونة باستمرار ترامب في الحكم وبما هو عليه من أجندة داخلية وخارجية.

لكن من الجيل الأمريكي الجديد من لا يتفق مع رؤية القاعدة الشعبية لترامب، هذا الجيل الجديد تظاهر في عدة ولايات في العام الماضي ضد انتشار السلاح وفوضويته بالمجتمع الأمريكي، وتعبيراً عن رفض العنصرية وضد التمييز على أساس اللون أو الدين أو الأصول الإثنية.

فأجندة القوى الداعمة لترامب تخسر الآن وسط الجيل الأمريكي الجديد، تماماً كما حصل ويحصل مع المهاجرين الجدد، وخاصّةً مع القادمين من أمريكا اللاتينية، وكما هو أمر أجندة ترامب وسط غالبية النساء الأمريكيات.

وهذه القوى الثلاث: الشباب والأقليات الإثنية والنساء، هي القوى التي لعبت دوراً هامّاً في فوز باراك اوباما في انتخابات 2008، وهي التي نجحت أيضاً في جعل الديمقراطيين غالبية في مجلس النواب الأمريكي بعد الانتخابات النصفية الأخيرة.

أيضاً، فشلت إدارة ترامب في تعديل قانون الرعاية الصحية الذي أقرّته إدارة أوباما، وفشلت حتّى الآن في وضع قانونٍ للهجرة وفي بتِّ موضوع المهاجرين غير الشرعيين المولودين في أمريكا، بينما نجحت إدارة ترامب في وضع قانونٍ جديد للضرائب وصفه الكثير من المعلّقين بأنّه جاء لصالح الشركات الكبرى والأثرياء وليس لصالح الطبقة الوسطى والفقراء، وبعد إلغاء أو تخفيض مبالغ في الميزانية العامة كانت تُخصّص لصالح مؤسّساتٍ اجتماعية وتربوية.

وقد شهدت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عدداً غير مسبوق من عمليات العزل والاستقالات منذ تولّيه الرئاسة.

بالنسبة لترامب نفسه، فإنه يسير على القول العربي الشائع: «يا جبل ما يهزّك ريح»، بينما يرى البعض أن رياح التغيير في أمريكا الآن ربما تعوق التجديد لترامب في انتخابات العام القادم!