أسس الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650) فلسفته على يقين لا يرقى إليه الشك، ألا وهو: أنا أفكر إذاً أنا موجود.

وبمعزل عن النقاشات والحوارات التي خلقها هذا اليقين، فإن الإنسان والتفكير لا ينفصلان.

ونحن بدورنا نتساءل في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين: ماذا يعني أن نفكر؟

ينطوي السؤال على معنى أعمق ألا وهو: متى نستطيع أن نعلن بكل اطمئنان بأننا نفكر حقاً. وما كنت لأطرح هذا السؤال إلا لأن الشك يحوم حول قدرة كثيرين على التفكير، ليس في بلادنا فحسب، وإنما في بلاد أخرى كثيرة.

أن نفكر يعنى أن يكون لنا ملكة الكشف عن الأوهام الذاتية المتعلقة بالواقع والحياة والمعرفة، فكل من يفكر مخالفاً قوانين الطبيعة والعقل لا يفكر، لأنه سيقع في الوهم بالضرورة. انطلاقاً من هذه الأطروحة فإن جميع الأصوليين- بلا استثناء- الساعين لإعادة الماضي إلى الحاضر جماعات لا تفكر، فهذا الذي ينتظر المهدي لينتقم، وذاك الذي يريد إعادة الخلافة، وآخر يريد إعادة الإمامة هم رهط من الجماجم التي لا تفكر!

أن تفكر يعني أنك إذا ارتكبت حماقة ما، ثم اكتشفت بأنها حماقة عدلت عنها بكل شجاعة وكبرياء، لأن الاستمرار معانداً بحماقاتك يعنى الاستمرار بنتائج كارثية تعود عليك وعلى الخلق الذين تمسهم حماقاتك.

أن تفكر يعني أنك حين تنظر إلى الأشياء والحوادث وتتأملها لتكشف أسبابها ومالاتها، أن تفكر وتتأمل بعيداً عن موقف أيديولوجي أو تقيمي أو مصلحي.

فليس هناك ما يفسد التفكير أكثر من المصلحة، فالمصلحة تزين لنا ما نحب، بل وتدفعنا أن نكره، وقد قال أحدهم يوماً: إن الإنسان قد ينكر حقائق الرياضيات إذا عارضت هذه الحقائق مصالحه، فالإقرار بالحقيقة يوفر على المرء التعامل الحسن والمأمون مع الواقع، حتى ولو كانت الحقيقة مناقضة لما أريد، بل ذلك يحملنا على أن نفكر بجعل الحقيقة في خدمتنا.

وهذا يقودنا إلى القول أن نفكر يعني أن نتحرر من التعصب والأفكار المسبقة والإقرار بأن المعرفة تشبه جريان النهر، ولا تتوقف أبداً، وعندها يكون اكتساب المعرفة من دون توقف من أهم الشروط لاكتساب القدرة على التفكير.

واكتساب المعرفة لا يتوقف على التعلم والدراسة في الجامعات والمعاهد العلمية، وقبلها في المدارس فقط، وإن كانت هذه المؤسسات الشرط الأهم لاكتساب المعرفة. وإنما يُضاف إليها كل منابع المعرفة وتشكيل الوعي كالتلفزيون والإذاعة والصحافة والمجلات والكتاب. ويعتبر الآن الإنترنت ووسائل التواصل معه وسيلة من أخطر الوسائل الإيجابية والسلبية للاطلاع.

فكما أن الإنترنت وما يحويه من مواقع تقدم المعرفة، فإنه كذلك يحتوي على مواقع اللاتفكير التي يستخدمها أعداء المعرفة والتطور الحضاري والتجربة الإنسانية.

وعندما أستخدم المعرفة فهذا يعنى كل أنماط المعرفة الإنسانية من العلوم العملية إلى العلوم النظرية إلى التجربة الإنسانية، فكلما ازداد محصولنا من المعرفة ازدادت قدرتك على التفكير.

أن نفكر يعني أن ينمو في عقلنا الحس النقدي المعرفي، فلا تجاوز للقديم من دون حساسية نقدية معرفية، والنقد المعرفي يعني أن نجعل من معايير العقل المتجدد طريقة في الفهم والتفسير والانزياح من النقد الأدبي إلى نقد الواقع مروراً بنقد المعرفة.

بقي أن نقول أن تفكر لا يعني أن لا ترتكب الخطأ، فمن حق الإنسان أن يخطئ.

وارتكاب الأخطاء جزء من السيرورة المعرفية والعملية للبشر، فكم من الأخطاء التي دلت أبصارنا إلى الطريق الصحيح، بل إن هناك من قال إن تاريخ العلم هو تاريخ تجاوز أخطائه، وما تجاوز الأخطاء إلا مظهر من مظاهر شجاعة العقل الذي يفكر.

* كاتب فلسطيني