مر على تاريخ ولادة النفاق زمن طويل، ولا يزال مستمراً حتى هذه اللحظة من حياتنا الراهنة، دون أن تبرأ البشرية منه. وعندي أنه يندر أن نعثر على كائن بشري لم يمارس النفاق، سواء كانت ممارسته صادرة عن رغبة منه، أم كان محمولاً عليها.
ما هذه القوة التي ينطوي عليها النفاق، كي يبقى حاضراً بكل صوره الممكنة في حياة الناس؟ وكيف للبشرية أن تشفى من هذا الداء العضال؟ وهل هناك مزيد من القول على ما قيل في النفاق، ذماً وشرحاً وتفسيراً؟
والمشكلة أنك لن تجد أحداً من الناس يمتدح النفاق، بل على العكس من ذلك، لن تجد أحداً إلا ويذمه، ومع ذلك، كيف لمن يذم النفاق أن يمارسه؟
والنفاق بالتعريف، كذب الإنسان على الآخر بظاهر من السلوك القولي والعملي، يناقض باطنه. حيث تبقى الأحكام الحقيقية قارة في باطن النفس، وتظهر الأحكام الكاذبة على اللسان والسلوك. ومقصود النفاق، خداع الآخر، إما طمعاً في منفعة، أو خوفاً على منفعة، أو خشية من سلطة. إذن، يستمد النفاق قوة استمراره من الطمع والخوف على ومن.
لن أسرد كل أشكال النفاق، فهذا أمر يطول ذكره، حسبي في هذه المقالة، أن أكشف عن أخطر أنواعه، ألا وهو النفاق للسلطة الاستبدادية الحاكمة، أقول هو أخطر الأنواع، لأن فيه تدميراً للأوطان وللبلاد والعباد. وتحطيماً لقيم المجتمع، إذا ما تحول النفاق إلى عادة لا تنجب لدى الآخرين دهشة أو ذماً.
والنفاق للسلطة المستبدة على نوعين: نفاق بدافع الحصول على فضلات سلطة، والتي تشق الدرب أمام من حصل عليها للفساد والحصول على الثروة.
ونفاق يكون خوفاً من السلطة وخطرها العصي على التوقّع، من سجن وتشليح ثروة وقتل.
والعلاقة بين السلطة المستبدة واكتساب الثروة فساداً علاقة ترابطية.
النفاق هنا يتعين بإظهار الولاء المطلق للسلطة المستبدة، مدحاً بها وقدحاً بمعارضيها، دفاعاً عنها وهجوماً على مناهضيها، تذللاً للفاعلين فيها، وتنمراً على المفعولين. خنوعاً لخطابها، ونقداً وذماً لخطاب مناقضيها. فضلاً عن هذا وذاك، فإن المنافق هنا يمتثل لأوامرها من دون سؤال أو تفكير.
وإن ما يظهره المنافق من ولاء للسلطة، هو في حقيقته ولاء لنفسه ولأطماعها ومنافعها فقط. إنه في أعماقه يدرك وضاعة سلطة الاستبداد، ووضاعته، فيعيش تناقضاً بين مصلحته وحبه لفضلات السلطة، وما تقدم له من ثروة، ووعيه الحقيقي بالسلطة. والسلطة المستبدة بدورها، غالباً ما يكون لها معرفة بأكثر المنافقين، وتغدق على المنافق ما يريد، لقاء الوظيفة التي يؤديها لها، وإن رأت أنه كف عن أن يكون مفيداً، فإما أن تصرفه صرفاً بسلام، إذا لم يكن منه ضرر في المستقبل، أو تصرفه صرفاً عنفياً، بكشف فضائحه لإدانته، إذا ما ظنت بأنه قد يشكل خطراً ما عليها.
أما النفاق خوفاً، فهو النفاق المحمول عليه الفرد قمعاً وأماناً من شر السلطة المستبدة.
تظهر أشكال النفاق هذه في العمل، مثلاً، والخوف من المخبرين المنتشرين داخل مؤسسات الدولة. فالخوف يحمل الأفراد والجماعات على إظهار الولاء أمام من يعتقدون بأنهم مخبرون.
وتمثل الاحتفالات المتعلقة بالمستبد ونظامه، الحقل الذي يظهر فيه النفاق خوفاً وتزلفاً. فالاحتفالات هذه مناسبة للمراقبة. فيجب أن يقوم رئيس المؤسسة بملء حيطانها بصور المستبد بكل أحواله، ويجب أن يكون على رأس العاملين في مؤسسته في الاشتراك بما يسمى بالمسيرة، وأغلب الذين يهتفون بحياة المستبد يحتقرونه ويسخرون منه.
فإذا كان النفاق للمستبد في الحالة الأولى، التي يكون فيها النفاق مقصوداً لتحقيق منفعة، أو الحفاظ عليها، أخلاق وضيعة طوعية، فإن النفاق هنا، بوصفه نفاقاً محمولاً عليه الفرد، يولّد حقداً دفيناً على المُنَافق له، ويولّد أخلاق التمرد الذي ينتظر الشروط الضرورية لانفجاره.
إن مبدأ السلطة المستبدة، الذي يتحكم في علاقاتها مع الإنسان، هو: نافق ووافق أو فارق. وعندها لا يكون الوطن وطناً، إذا ما تحول إلى وطن النفاق. الحرية وحدها القيمة التي تضيق من حقل النفاق، وتحرر البشرية منه.
* كاتب فلسطيني