ليس هناك خطر على العلاقات الإنسانية يفوق خطر تفشي الأكاذيب في المجتمع، وتصديقها. والكذب، بكل أنواعه نقيصة ما بعدها نقيصة، فهو ليس اعتداءً على الحقيقة فقط، وإنما اعتداء على الشخص، فهو خداع للآخر. وخداع الآخر، كل خداع، اعتداء.
والوعي الشعبي يتحدث أحياناً عن كذب أبيض، والمقصود بأنه لا ضرر منه. والحق بأن الكذب أبيض أو أسود معرة وخطر إذا كان مقصوده إخفاء الحقيقة بدافع الخداع وتحقيق مصلحة ما. أما إذا أخفيت عن مريض كهل مرضه الخطير بدافع عدم إيذاء شعوره فيما يتبقى له من حياة فهذا كذب ليس مقصوده الإيذاء.
دعوني من الأكاذيب المألوفة في حياة الناس اليومية، وهي كثيرة، وأسبابها عدة كي أتحدث عن الأكذوبات الفاقعة بما هي أخبار عن الشخص والمجتمعات.
هناك جمهور من الكائنات المعروفة أكذوبات، بعضها أكذوبات مكشوفة وهذه الكائنات لا تشكل خطورة على الوعي، وتصبح موضوعاً للسخرية والتندر. وبعضها الآخر أكذوبات مستترة، ولم يستطع الوعي العام أن يكشفها، فتمارس ضررها على الناس من خلال تصديقهم لها.
وتتحول، لكي تحافظ على ظهورها الزائف، إلى أكذوبات كذابة. فهي تكذب دون أن يرف لها جفن. وتختلق من القصص ما لا يخطر على بال. وتسرق بخبرة عالية من النصوص والأفكار وتنسبها لذاتها.
ولكن كيف تنتشر الأكذوبة ويصدقها الناس وتسكن في عقولهم إلى الحد الذي يكون فيه نقل جبل من مكانه أسهل من اقتلاع الأكذوبة من عقول الناس.
الكذبة يشيعون بين الناس أكذوبتهم، ويجب أن يكون الكاذب محترفاً بالدجل وصار له مكانة بسبب دجله.
البشر يتناقلون الأكذوبة فتنتشر، دون أن يسأل الجمهور عن أصل الكذبة وفصلها، فتمتلك قوة الاستمرار وقوة الصمود أمام الحقيقة، فالأكذوبة - الإشاعة تهزم الحقيقة إلى زمن طويل.
مصدق الإشاعة جاهل بالإشاعة، بحقيقتها لو أنه يعرف لما صدقها، فمنطق انتشار الإشاعة منطق تأكيدها عند عدد كبير من الناس، صار إجماع الناس عليها معيار صدقها.
الأكذوبات حول الأفراد الذين صار لهم شأن في الذاكرة. وهي أكاذيب صدرت إما عن الفرد أو عن المحيطين به، أكاذيب تقف أمامها مشدوهاً، إذا كنت تعرف حقيقة الفرد الأكذوبة.
والإشاعات السياسية وغير السياسية، ينطبق على شائعات المدح والقدح، والقصص التي لا أصل لها والقصص المزيدة والمنمقة.
وإذا كانت الإشاعات والأكاذيب هذه حالها داخل مجتمع من المجتمعات، ما بالك بحال الأكاذيب التي تشاع عن الأمم وأخلاقها وعاداتها، فأي قوة قادرة على دحضها وتبيان زيفها. وقس على ذلك.
ويبدو لي أن الناس يسعدون بالأكاذيب ويسعدون بتناقلها، وخاصة لدى الذين لا شغل لهم سوى الإشاعات والأكاذيب.
لنفترض بأن الأكذوبة هي خبر صادر عن صاحبه أو من هو قريب منه.
والتحقق من الخبر، وبخاصة الآن، سهل جداً. فالخبر يجب أن يظهر في وثيقة.
فلو قلت مثلاً بأني أحمل ثلاث شهادات دكتوراه، فشهادات الدكتوراه تصدر بوثيقة. فالوثيقة الآن هي وسيلة تحقق قوية. في غياب الوثيقة يجب ألا أصدق الخبر. حتى الوثيقة يجب التأكد من مصدرها ومعقوليتها وخاصة فيما يتعلق بالأكذوبات التاريخية القديمة.
إن هناك علاقة قوية بين انتشار الأكاذيب وقوة حضورها وغياب العقل النقدي أو ضعفه من جهة، وقوة الانحياز الأيديولوجي عند مصدقي الأكذوبات، الذي بدوره يقضي على الوعي النقدي عند الناس.
كم من الأكذوبات التي ما زال البشر يصدقونها، ويسلكون على أساسها، دون أن يسألوا مرة واحدة ما إذا كانت هذه الواقعة قد حدثت فعلاً، أو أن هذا الشخص فعلاً هو هو كما قدمته لنا كتب التاريخ، أو كما قدم هو نفسه.
وهنا يجب أن نشير إلى أول ما يجب أن يتعلمه الطفل في المدرسة هو الوعي النقدي. وهذا الأمر يحتاج إلى مقالة خاصة.