بغضّ النظر عن نتائج الانتخابات الإسرائيلية، فإنّ حقائق الصراع العربي - الإسرائيلي على مدار سبعين عاماً، تؤكّد أنّ مشكلة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، لا ترتبط بشخصٍ محدّد أو بحزبٍ ما في إسرائيل.
فالجرائم الإسرائيلية ضدّ الشعب الفلسطيني، حدثت وتحدث، بإشراف من حكومات إسرائيلية مختلفة، بعضها ينتمي لتكتّلات حزبية متطرّفة في الكنيست، كتجمّع «ليكود»، وعلى رأسه نتنياهو، وبعضها الآخر كان يتبع لأحزاب تتّصف بالاعتدال، كحزب العمل، الذي قاد عدّة حروب على العرب خلال العقود الماضية.
الأمر نفسه ينطبق على الموقف من القرارات الدولية بشأن القضية الفلسطينية، وعلى الاتّفاقات الموقّعة مع «منظمة التحرير الفلسطينية»، ثمّ مع السلطة الفلسطينية، حيث لم تنفّذ الحكومات الإسرائيلية المختلفة، هذه القرارات أو الاتّفاقيات.
كما واصلت جميعها سياسة التهويد والاستيطان في القدس والضفّة الغربية والجولان، رغم تعارض ذلك مع القوانين الدولية، ولم تقم أي حكومة إسرائيلية حتّى الآن، بإعلان الحدود الدولية لـ «إسرائيل»، ولا بضمان حقوق اللاجئين الفلسطينيين، ما يجعل أساس الصراع العربي والفلسطيني مع إسرائيل مستمرّاً، رغم تغيّر الأشخاص والحكومات فيها.
وهناك الآن حالة انتظار تسود المنطقة العربية، لما ستسفر عنه هذه المرحلة من متغيّرات سياسية، وتطوّرات عسكرية في أكثر من مكان، كما كان يحدث في السابق من مراهنة الانتظار على نتائج انتخابات أمريكية أو على مؤتمرات دولية.
لكن حتماً القوى الدولية والإقليمية الفاعلة، ليست جالسةً مكتوفة الأيدي ومكتفيةً بحال الانتظار، فهي تعمل من دون شك على صناعة هذه المتغيّرات، أو على تهيئة نفسها للتّعامل مع نتائجها، بل هي تحاول الآن استثمارها أو حرفها أو محاصرتها أو التحرّك المضاد لبعض مساراتها.. وهي كلّها مسائل قائمة مرتبطة بأمكنة هذه المتغيّرات وظروفها.
إنّ تحميل «نظرية المؤامرة» وحدها مسؤولية المصائب التي حلّت في الأمّة العربية، هي حتماً مقولةٌ خاطئة ومُضلّلة، فكلّ ما يحدث من «مؤامرات خارجية»، يقوم فعلاً على استغلال وتوظيف خطايا داخلية عربية، لكنّه أيضاً «قصر نظر» كبير لدى من يستبعد دور ومصالح «الخارج» في صياغة حاضر ومستقبل منطقةٍ تشهد الآن أهمّ التحوّلات السياسية والأمنية والجغرافية.
الواقع الآن أنّنا نعيش «زمناً إسرائيلياً» في كثيرٍ من الساحات العربية والدولية. زمنٌ يجب الحديث فيه عن مأساة الملايين من الفلسطينيين المشرّدين منذ عقود في أنحاء العالم، لا عن مستوطنين يهود يحتلّون ويغتصبون الأرض والزرع والمنازل دون رادعٍ محلّي أو خارجي.
«زمنٌ إسرائيليٌّ» حتّى داخل بلدانٍ عربية كثيرة، تشهد صراعاتٍ وخلافات طائفية ومذهبية، تخدم المشاريع الأجنبية والإسرائيلية، في الوقت الذي تحتّم فيه مواجهة هذه المشاريع أقصى درجات الوحدة الوطنية. زمنٌ تفرض فيه إسرائيل بحث مسألة «الهويّة اليهودية» لدولتها، التي لم تعلن عن حدودها الرسمية بعد.
وإذا كانت إسرائيل وأجهزتها الأمنية تتسلّل إلى أهمّ المواقع السياسية والأمنية في دول كبرى، ومنها حليفتها الكبرى أمريكا، فكيف لا تفعل ذلك مع أعدائها «الجيران» لها؟ فرغم كلّ العلاقات الخاصّة بين أمريكا وإسرائيل، هناك تجسس إسرائيلي يحدث على الحليف الأمريكي، وهناك العديد من العملاء الأمريكيين الذين اعتقلوا بتهمة التجسّس والعمل لصالح إسرائيل في مواقع أمنية أمريكية مهمّة، وبعضهم من خلال علاقتهم مع منظمة «الإيباك»، اللوبي الإسرائيلي المعروف بواشنطن. فكيف بساحات الصراعات الجارية الآن داخل المنطقة أو في دول الإقليم؟!
كيف يمكن المراهنة الآن من جديد على مزيدٍ من التفاوض مع إسرائيل، إذا كانت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ اتّفاق أوسلو في عام 1993، ترفض وقف الاستيطان والانسحاب من القدس، وحقّ العودة للفلسطينيين، وهي القضايا الكبرى المعنيّة بها أي مفاوضات أو «عملية سلام» مستقبلية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي؟!
ثمّ كيف سيأمل الفلسطينيون بموقف أمريكي إيجابي، إذا كانت إدارة ترامب اعترفت بالقدس كعاصمة أبدية لإسرائيل، ووافقت على ضمّ الجولان، وأوقفت كل أشكال الدعم المالي للشعب الفلسطيني، وربّما تدعم قريباً ضمّ غور الأردن وأمكنة المستوطنات؟!
ولعلّ بعض الشواهد التاريخية مهمّة، لتأكيد عدم الفصل بين القضايا العربية الداخلية، وبين الصراع العربي/الصهيوني: فالعدوان الثلاثي الإسرائيلي/ الفرنسي/ البريطاني على مصر في عام 1956، حدث لأنّ جمال عبد الناصر قام بتأميم شركة قناة السويس لأسباب داخلية مصرية.
أمّا في لبنان، فقد بدأت فيه حربٌ أهلية دامية وطويلة في عام 1975، ارتبطت بمسألة الوجود الفلسطيني على أرضه، الوجود المسلّح وغير المسلّح. ففي لبنان يعيش مئات الألوف من اللاجئين الفلسطينيين، المسؤولة إسرائيل والغرب عن تهجيرهم من وطنهم وأرضهم لعدّة عقودٍ من الزمن، ولا حلَّ قريباً لمشكلتهم.
وبالتالي، شكّل هذا الوجود الفلسطيني عنصرَ تأزّمٍ دائم في الحياة السياسية اللبنانية، القائمة أصلاً على أوضاع خاطئة مهدّدة دائماً بالانفجار. فهل يمكن أن يشهد لبنان استقراراً دون حلولٍ عادلة لحقوق الشعب الفلسطيني؟!
فلسطين كانت أوّلاً في «وعد بلفور»، قبل تقسيم المنطقة العربية في «سايكس بيكو» بمطلع القرن العشرين قبل مئة عام. وفلسطين كانت أوّلاً في حروب «الإفرنج» قبل ألف عام. وفلسطين كانت أوّلاً في معظم صراعات المنطقة في القرن الماضي. وستبقى فلسطين أوّلاً لكلّ شعوب المنطقة العربية، رغم الغبار والضباب الذي يغشي الأبصار في هذه المرحلة الزمنية.
مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن