انتهى عصر القطبين السياسيين العسكريين الاقتصاديين، وصار العالم متعدد الأقطاب قادرًا على فتح الباب للمزيد من الأقطاب طالما تمتلك المقومات. وولى زمن الاضطرار للالتزام بالعلاقات الأقوى والمصالح الأبرز والاتفاقات الأهم مع قوة عظمى واحدة مع الإبقاء على القوة الأخرى بعيدة عن العين وبالطبع عن القلب والعقل.

تغيرت موازين القوى، وتبدلت قواعد الهيمنة، وتطورت نظريات السيطرة، وبات التقدم لشغل مكان «قوة عظمى» متاحًا لمن استطاع إليه سبيلاً، وليس لمن حجز لأمته موقعًا مهما كان تاريخيًا وتقليديًا.

والتقليد الذي ظل متبعًا على مدار عقود طويلة جدًا للإبقاء على طرفي النقيض القوة: أمريكا والاتحاد السوفييتي أحيل من مراجع العلوم السياسية إلى كتب التاريخ.

وتخبرنا موسوعة «بريتانيكا» أن «القوة العظمى» هي دولة تمتلك قدرات عسكرية واقتصادية أو كليهما، بالإضافة إلى قدرة تأثير على غيرها من الدول من منطلق فوقي.

ورغم أن حكماء العالم وعلماءها لا يعقدون اجتماعًا لاختيار من يحظى بلقب «قوة عظمى»، إلا أنها معرفة تفرض نفسها بالفعل والحجة والبرهان والتحركات والسياسات. وحين يتنامى شعور إلى الشخص العادي بأن دولة ما قادرة على فرض وجودها وبسط هيمنتها دون اصطناع أو اعتماد على بلاغة لفظية أو مؤامرات تحتية، فإنها تكون قوة عظمى. حين يعرف كل منا في قرارة نفسه أن أزمات الكوكب الكبرى لن تحل إلا بضلوع ولو صغير أو غير مباشر من قبل دولة ما، فإنها في الأغلب تكون قد حظيت على لقب «قوة عظمى».

عقود طويلة مرت وأجيال عديدة ولدت وكبرت وإسم أمريكا والاتحاد السوفييتي يفرضان نفسهما على الجميع باعتبارهما القوتين العظميين. مرا بقدر هائل من العداء، وسنوات من الهدوء المشوب بالحذر، وحقب من الشد والجذب، إلى أن انقلبت قواعد اللعبة الأممية، وتم الاكتفاء بقوى عظمى واحدة على الساحة. والحق يقال أن تفتت الاتحاد السوفييتي وانفراد أمريكا باللقب أفقده جانبًا غير قليل من إثارته وجاذبتيه.

وعلى الرغم من أن مقدار قوة الولايات المتحدة الأمريكية فاق قوة الاتحاد السوفييتي على مدار سنوات الحرب الباردة، إلا أن الأحداث والحوادث أثبتت أن «القوة العظمى» ليست مجرد مقاييس على موازين القوى الاقتصادية والعسكرية، لكنها أيضًا «حالة نفسية وعقلية». وأبرز دليل على ذلك هو أن أمريكا رغم تفوقها على مقياس ريختر للقوى العظمى- إلا أنها ظلت على يقين بأن عليها التشاور مع روسيا قبل أن تتخذ قرار التدخل في مشكلة أو أمر يتعلق بالشؤون الدولية.

وحين تأكدت أمريكا إنها باتت قوة العالم العظمى في أعقاب تفتت الاتحاد السوفييتي، ظن العالم أنها ستنفرد بساحة التفوق العسكري والاقتصادي. لكن الظن لم يدم طويلاً، واستيقظ العالم ليجد قائمة من الدول التي تعتقد أن في إمكانها أن تملأ الفراغ الأممي جنبًا إلى جنب مع أمريكا.

بزغت الصين قوة اقتصادية وتجارية عظمى. وعلى النهج نفسه تسير الهند، وربما البرازيل، بل أن البعض يرى اليابان وكوريا الجنوبية وفرنسا وغيرها من الدول مرشحة لتكتسب اللقب.

والأدهى من ذلك أن العالمين ببواطن التكنولوجيا والمطلعين على آثارها الحالية والمستقبلية يرون أن المستقبل سيتسع لقوى عظمى تكنولوجية قادرة على الهيمنة على العالم. الهاتف المحمول وما حققه من إنجازات أقرب ما تكون إلى المعجزات حيث الوصول إلى المليارات في أماكن نائية أو معدمة. ويكفي أن الهاتف المحمول المتصل بشبكة الإنترنت انتشل اثنين في المئة (200 ألف أسرة) من الكينيين الذين كانوا يرزحون تحت خط الفقر من فقرهم.

السحب الإلكترونية كذلك مرشحة لتكون قوة عظمى تكنولوجية. واليوم تسع من بين كل عشر مؤسسات حول العالم لها تواجد في السحب الإلكترونية. وبالطبع هناك الذكاء الاصطناعي الذي أثبت قدرته على تغيير حياة الناس 180 درجة. فمن قدرات أعلى وأدق على التشخيص الطبي، إلى التقنيات التي تتيح للأشخاص الذين فقدوا أطرافهم للتمتع بحياة شبه عادية.

ما لم يعتده البشر أن تكون هناك قوة عظمى غير تلك القوى التي اعتادوها. بالطبع ستبقى أمريكا قوية وذات هيمنة وسيطرة سياسية وثقافية واقتصادية واجتماعية على العالم. لكنها لن تبقى وحدها المهيمنة الوحيدة على قمة الهرم.

ويكفي النظر إلى موازين القوى في الشرق الأوسط، حيث التحالفات لم تعد أحادية، إما مع الأمريكان أو مع الروس، بل أن دولاً عدة في المنطقة العربية باتت تحرص على إقامة علاقات طيبة وقوية ومفيدة مع هؤلاء وأولئك. ولعل كسر الهيمنة الأحادية في حد ذاتها إنجاز سياسي واقتصادي وثقافي يحسب لعدد من الدول العربية أبرزها مصر والإمارات والسعودية.

صحيح أن الروس أحياناً يهرعون لملء فراغ أمريكي هنا، أو ضبط كفة تحالفات هناك، إلا أن امتلاك الخيوط المؤهلة للقوى العظمى لم تعد أحادية، أو حكرًا على دولة دون أخرى، أو حتى على دولة من الأصل. القوى العظمى تغير دماءها، والمنطقة العربية تتغير أيضًا.

* كاتبة صحفية