يشهد لبنان هذه الأيام مظاهرات غير مسبوقة في التاريخ الحديث لهذا البلد الذي حظي بموارد بشرية فريدة وطبيعة خلابة؛ وابتلي بمشكلات أكبر من حجمه من صنعه ومما يصدّر له من الخارج. ويطالب المتظاهرون بإصلاح جذري للنظام السياسي ومحاسبة الطبقة السياسية اللبنانية. مطالب تبدو عادلة ولكنها قد تزعزع النظام السياسي والاجتماعي الهش في ذلك البلد الذي عانى ويلات الحرب الأهلية والاجتياح الخارجي.

لبنان كغيره من أشقائه العرب، بل وكثير من دول العالم النامي، رغم ما يعتقده كثير من اللبنانيين، لم يشكل تاريخياً أمة لها دولة. فمفهوم الدولة - الأمة، أو الدولة القومية، أي تطابق شعب مع دولة تمارس سيادة على رقعة جغرافية مثل فرنسا أو بريطانيا، حديث نسبياً. ولكن لبنان بالذات رغم تقدمه في مجالات عدة عن أترابه من الدول العربية، هو توليفة من ملل ونحل عدة.

وقد ذكر مؤرخ لبنان الأول، المرحوم كمال الصليبي، في كتابه «بيت بمنازل كثيرة: الكيان اللبناني بين التصور والواقع» كيف كان تشكيل الوطن اللبناني بين هويات ورؤى تاريخية متنازعة بين فئات عدة. وقد تم خلق «لبنان الكبير» بما يضم فئات لا ترى للبنان هوية واحدة. فالمسيحيون الموارنة يرون أن الوطن اللبناني ضارب في التاريخ، وهم من أثر على الفرنسيين لخلق هذا الكيان بينما يرى آخرون، خاصة من المسلمين، أن الوطن اللبناني جزء لا يتجزأ من الوطن العربي الكبير.

والصراعات الطائفية سبقت المرحلة الاستعمارية ومرحلة الزخم القومي. فقد وقعت أحداث بين الفئات المختلفة في مناطق الجبل قبل أن يلد القطر اللبناني. فهناك الحرب الأهلية التي وقعت بين الدروز والموارنة في 1860. فحين ثار الفلاحون الموارنة ضد الإقطاعيين الدروز نجح الأخير لتحويل الصراع من صراع طبقي إلى صراع طائفي مما نتج عنه فتنة طائفية أودت بأرواح كثيرة من المسيحيين الموارنة.

ولما كان لبنان تجمع لعدة طوائف ومناطق جغرافية المتمثلة في جبل لبنان معقل الموارنة والدروز والساحل والشمال معقل المسلمين السنة إضافة إلى الجنوب المحاذي لفلسطين حيث الأغلبية الشيعية وطوائف مسيحية ومسلمة متعددة تصل إلى 18 مجموعة، كان لابد من خلق نظام سياسي توافقي بين هذه المجموعات المختلفة. وتوافق زعماء الطوائف على ما عرف بـ«الميثاق الوطني» والذي منح الموارنة رئاسة الدولة، والسنة رئاسة الحكومة، والشيعة رئاسة البرلمان، بينما منح الروم الأرثوذكس منصبي نائب رئيس الوزراء ونائب رئيس البرلمان. وعضوية البرلمان قسمت إلى نسبة ستة إلى خمسة لصالح المسيحيين، بسبب الكثرة العددية حينها حسب إحصائيات منذ الانتداب الفرنسي.

وكان هذا النوع من النظام السياسي ما أطلق عليه علماء السياسة الديمقراطية التوافقية بدلاً من الديمقراطية التنافسية أو ديمقراطية الأغلبية. وقد تحدث أرند ليبهارت والذي كان من أول من كتب عن الديمقراطيات التوافقية أنها تظهر في المجتمعات المنقسمة على نفسها بسبب الوضع الإثني أو الديني والطائفي أو اللغوي. وهي وسيلة تلجأ لها النخب المختلفة للتوصل إلى صيغة تعايش بين مكونات المجتمع. كما أن من خصائص الديمقراطية التوافقية امتلاك كل مجموعة حق نقض السياسة إذا لم تتوافق مع مصالحه. كما أن المجموعات تتمتع بحكم ذاتي فيما يختص بمجموعتها. وأخيراً التمثيل النسبي لكل مجموعة في إدارة دفة الدولة.

وهكذا ولدت الجمهورية اللبنانية الأولى التي كانت مثالاً للعيش المشترك. ولكن جمود وتصلب النظام السياسي لم يسمح له بمواكبة التغيرات التي شهدتها البلاد فبات متمسكاً بصيغة لم تصلح لسياقها التاريخي والاجتماعي وحصل الانفجار الكبير الذي زج البلاد في حرب أهلية استمرت لعقد ونصف.

وبعد نهاية فترة حكم أمين الجميل شغر منصب الرئيس، واحتل قائد الجيش ميشيل عون بعد أن عينه الأخير رئيساً للوزراء، رغم أن المنصب مخصص للمسلمين السنة. واجتمع الفرقاء اللبنانيون للوصول إلى صيغة جديدة تنهي الحرب وتفتح الطريق إلى إعادة كيان الدولة. وكان لجهود المملكة العربية السعودية أثر مهم لجمع شمل اللبنانيين والتوصل إلى «اتفاق الطائف»، والذي أعاد بنية الدولة وغيّر في الميثاق الوطني بعد نصف قرن تقريباً من إقراره. وعندها كان مولد الجمهورية اللبنانية الثانية.

والآن يواجه لبنان مرحلة استحقاق جديدة ثلاثين عاماً بعد اتفاق الطائف. ويطالب المحتجون في الشوارع اللبنانية بتغير جذري وإسقاط الدولة الطائفية التي يبدو أن الجميع يتفق على التخلص من المحاصصة الطائفية البغيضة كمدخل لإصلاح شامل للدولة وإحلال الدولة الوطنية المدنية محلها.

على ما يبدو أنها ستكون ولادة عسيرة للجمهورية اللبنانية الثالثة. واللبنانيون وريثو حضارات عريقة ومعارف كثيرة. لا تعجزهم الحيلة ولا الدراية وسيتمكنون من تجاوز محنتهم. ولابد مما ليس منه بد!

* كاتب وأكاديمي