بينما يدلي الشهود أمام مجلس النواب بشهاداتهم في قضية عزل ترامب، والتي قدم الكثير منها أدلة واضحة، صار جلياً، أكثر من أي وقت مضي، أن لا شيء من الحقائق التي تتكشف تباعاً، من الممكن أن تغير من دعم الأعضاء الجمهوريين للرئيس، فالأدلة التي يقدمها الشهود لا علاقة لها بإمكانية عزل ترامب وإزاحته من منصبه.

فالمتابع لجلسات الاستماع، التي تبثها على الهواء مباشرة أغلب القنوات الأمريكية الإخبارية، يلفت نظره فوراً طبيعة الأسئلة التي يوجهها النواب الجمهوريون للشهود، فهؤلاء النواب، المنوط بهم دستورياً الرقابة على المؤسسة التنفيذية بما فيها الرئيس الأمريكي نفسه، لا يسألون سؤالاً واحداً يبحث عن الوقائع التي جرت أو يستقصي الحقيقة، فهي كلها أسئلة مصاغة على نحو يلمح إلى فقدان الشاهد المصداقية أو المعرفة بما جرى فعلاً، بينما بدت أسئلة أخرى غير موجهة على الإطلاق للشاهد، بقدر ما هي موجهة للديمقراطيين تتهمهم بأن إجراءات العزل أهدافها حزبية للإطاحة بالرئيس الجمهوري.

والعلاقة لكل ذلك بطبيعة ما يتكشف من حقائق معدومة في واقع الأمر، باستثناء التغير المستمر في أطروحات الدفاع عن الرئيس، الجمهوري. فالحقائق التي تتكشف يتم التعامل معها فقط عبر تغيير استراتيجية الدفاع عن الرئيس، فدفاع الجمهوريين عموماً لا في الكونجرس وحده يبدأ من الدعوة للثناء على الرئيس بدلاً من فتح تحقيق يهدف لعزله، ومروراً بالاعتراف بأن خطأ قد ارتكب، لكنه لا يستوجب العزل، ووصولاً لاعتبار أن عدم كفاءة ترامب جعلته يفشل في تحقيق هدفه الذي كان يستوجب العزل لو حققه.

أما الثناء على الرئيس فهو ما جاء ضمناً في تعليقات بعض النواب عبر اعتبار أن ترامب كان واضحاً منذ بداية حكمه في رغبته بخفض المساعدات الأمريكية لدول العالم، فما بالك بدولة يعترف رئيسها الحالي في حملته للرئاسة بأن الفساد مستشرٍ فيها، الأمر الذي يعني أن ترامب بمطالبته لأوكرانيا بالتحقيق في وقائع فساد يستحق الإشادة.

وقد كان واضحاً أيضاً في دفاع بعض الأعضاء الجمهوريين في تصريحاتهم خارج قاعات المجلس اعتبارهم أن ما فعلته رموز الإدارة بمن فيهم محامي الرئيس الشخصي، رودي جولياني، لم يكن مناسباً ولا مقبولاً، إلا أنه لا يستوجب عزل رئيس منتخب، وإنما يستوجب خطوة أقل في «تطرفها» حسبما يقولون، وهي توجيه الكونجرس «اللوم» للرئيس، وهي خطوة نادرة الحدوث، بالمناسبة، في التاريخ الأمريكي.

لكنّ جمهوريين ليسوا أعضاء في الكونجرس من المعروف عدم ولائهم لترامب رفضوا أيضاً عزل ترامب، ليس هذه المرة لأنهم يدعمونه، وإنما لأنهم يؤكدون أن عدم كفاءة الرئيس ليست من بين الأسباب الدستورية لعزل الرئيس الأمريكي، فهم يقولون إن ما يستوجب العزل هو أن يقوم الرئيس بالضغط على دولة أجنبية مقابل تحقيق هدف شخصي لا يتعلق بسياسة أمريكا الخارجية، لكن لا أوكرانيا رضخت لتلك الضغوط وأعلنت، كما أراد ترامب، بدء التحقيقات التي أرادها ترامب حتى تدين منافسه السياسي جوزيف بايدن، ولا تم تعليق المساعدات الأمريكية حتى ترضخ أوكرانيا، وكان ذلك بسبب عدم كفاءة ترامب وعجزه عن تحقيق هدفه أصلاً.

وقد كان واضحاً طوال الأسابيع الأخيرة أن أداء الديمقراطيين لا يخلو هو الآخر من الانحياز الحزبي، فبعد أن سارت جلسات الاستماع في مسارها صار جلياً أنه قد تم الإعداد لها بعناية بحيث يتم إفساح المجال أولاً للشهود الذين لا تمثل شهاداتهم سوى أدلة محدودة ثم يتم تدريجياً الانتقال لشهود تمثل شهاداتهم ما يدين الرئيس، لكن يظل الدور الذي يلعبه الجمهوريون هو الأهم بالنسبة لما سوف تسفر عنه العملية برمتها، ففي ظل استقطاب حاد تعيشه الولايات المتحدة فلا شك أصلاً في أن أغلبية ساحقة من الديمقراطيين خصوصاً بمجلس النواب، الذي يملكون فيه الأغلبية، سيصوتون لصالح عزل ترامب، بينما لن يصوت الجمهوريون، بمجلس الشيوخ، الذي يتمتعون فيه بالأغلبية، لصالح إزاحة ترامب من منصبه،

فالعامل الحاسم لدى الجمهوريين هو شعبية ترامب ليس لدى الرأي العام عموماً، وإنما لدى الناخبين الجمهوريين، لأن أولئك الناخبين هم الذين سيحسمون مستقبل الأعضاء الجمهوريين بالمجلسين وقت سعيهم لإعادة انتخابهم. ولما كانت شعبية ترامب لدى الناخبين الجمهوريين تكاد تصل إلى 90%، فلا يتوقع من الجمهوريين على الإطلاق التخلي عن دعمهم للرئيس أو الموافقة على عزله.