حادث إطلاق النار على أحد المساجد بمدينة «بايون» الفرنسية والذي ارتكبه أحد المتطرفين الفرنسيين، تحت شعار «الانتقام من تدمير كنيسة نوتردام» في باريس، أثار السجال والجدل من جديد حول علاقة المسلمين بفرنسا وأعقبته حملة ضد المسلمين تميزت بالتحريض على كراهية الإسلام والمسلمين.
في العاشر من نوفمبر نظم المسلمون مظاهرة ضد معاداة الإسلام والمسلمين في فرنسا شارك فيها 13.500 من المسلمين وجزء بسيط من غير المسلمين، وهذه التظاهرة ورغم أنها تمثل جزءاً بسيطاً وصغيراً من المسلمين الذين يبلغ عددهم في فرنسا 6 ملايين، إلا أنها فيما يبدو تمثل معاناة كل المسلمين في فرنسا، الذين يرفضون مناهضة الإسلام والعداء له على النحو الذي تفصح عنه الحملة الحالية، والتي من حسن الطالع أنها لا تمثل الأغلبية من الفرنسيين، بل عناصر ومجموعات مختلفة من اليمين واليمين المتطرف وأصحاب البرامج السياسية المغرضة التي تستهدف «تسييس» القضية واستخدام الديانة الإسلامية والمسلمين لتحقيق أهداف سياسية.
معاناة المسلمين في فرنسا من التمييز على سبيل المثال، أكدها الاستطلاع الذي طلبته مؤسسة «جان جوريس» والذي أكد أن نصف المسلمين تقريباً يعاني من التمييز والعنصرية؛ رغم أن الواقع يفصح عن قيام الدولة الفرنسية والمحليات والمناطق بتسهيل إقامة دور العبادة الإسلامية بالمئات في مختلف المدن والأقاليم، غير أن بعض الجماعات الإسلامية استغلت دور العبادة بهدف إظهار المسلمين «كضحية» لتغذية روح العزلة لدى المسلمين للتأثير في تنظيم المجتمع الفرنسي وسياسته الخارجية، يعزز من ذلك تكرار الحوادث الإرهابية والنقاش حول الحجاب ومحاولة تقنينه والخلافات المرتبطة به رغم المواقف المتباينة والمختلفة لليمين وأقصى اليمين واليسار وأقصى اليسار والمجتمع المدني من قضية «الحجاب»، إلا أن الإعلام والمواقف الحقيقية قد لا تبدو متطابقة مع المواقف المعلنة، ذلك أن الخطاب الذي نجم عن هذه الحملة لم يتوقف، بل زاد عليه أن وزير الداخلية الفرنسي أمام الجمعية الوطنية تحدث عن «مواصفات» المسلم المتطرف، أنه يقاطع جيرانه بعد أن كان يتصل بهم، ويحرص على أداء العبادات بشكل منتظم، وله لحية، وفي هذه اللحظة قام أحد الأعضاء من أصول مغاربية بالرد عليه وأنت لك لحية، ورئيس الحكومة ملتحٍ أيضاً، وهو يقصد أن الارتباط بين اللحية والتطرف غير ذي معنى، فالتطرف يتشكل في الفكر والعقل والسلوك العنيف، وانتشر في إثر ذلك «هاشتاغ» ساخر بعنوان «أبلغ عن مسلم» حظي بآلاف المشاركين.
وبناءً على ذلك، فالمشكلة الأكبر التي تواجه كلاً من المسلمين في فرنسا والدولة والمجتمع الفرنسيين هي فيما يبدو، فقدان الثقة بين الجانبين والانحيازات المسبقة الكامنة في وعي هذا الطرف أو ذاك، فالمسلمون في فرنسا تختزن ذاكرتهم الاستعمار الفرنسي وفظائعه التي ارتكبها في حق بلدانهم بالذات في المغرب العربي، وفي الوقت نفسه يرجعون الواقع المتردي في الضواحي التي يقيمون بها، وانتشار البطالة بينهم وانخفاض مستوى معيشتهم مقارنة بأقرانهم من الفرنسيين، إلى تحيز الدولة ضدهم والسياسات التمييزية التي تتبناها بعض الجهات والدوائر الفرنسية في مواجهتهم، أما الدولة والمجتمع في فرنسا فإن ثمة بعض الانحيازات ضد المسلمين بناءً على الصور النمطية والاستشراقية المترسبة في بعض المؤسسات الفرنسية مثل اتهام المسلمين بالعنف وميلهم إلى ذلك، ورفضهم الاندماج والقيم العصرية والجمهورية، وتحدى قيم المجتمع الفرنسي.
ربما لهذه الأسباب تعجز المؤسسات التي أنشأتها الدولة الفرنسية والدوائر الرسمية المعنية بشؤون الديانة الإسلامية، عن ابتكار حلول لهذه المشكلات إن من جانبها أو من جانب الدولة الفرنسية وتحظى بقبول الأطراف المختلفة، وهو الأمر الذي يسمح بإعادة إنتاج هذه المشكلة بطريقة مكررة لدى أي حدث يتعلق بالعلاقة بين المسلمين والمجتمع الفرنسي، وبداية فك هذه العقدة ربما تكمن في استعادة الثقة وبنائها بين الدولة الفرنسية والمسلمين واتخاذ إجراءات لبناء هذه الثقة، وتبديد الشكوك المتبادلة والانحيازات القائمة، وتقليص تسييس المشكلة، أي استخدامها واستثمارها لصالح كسب المزيد من الأصوات الانتخابية في الانتخابات البلدية أو النيابية، وكذلك بلورة برنامج وطني بمبادرة من الدولة الفرنسية ضد كراهية المسلمين والعنصرية ضدهم، بمشاركة المؤسسات الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني والناشطين في المجتمع من المسلمين وغير المسلمين، ومثل هذا البرنامج بمقدوره أن يحقق هدفين متلازمين الأول إرسال رسالة إيجابية من الدولة ومؤسساتها إزاء المسلمين، أما الثاني فيتمثل في إجراء نقاش حر وإيجابي من كل المقاربات، وتحرير النقاش من جماعات الضغط المختلفة من قبل كل الأطراف، ومحاصرة خطاب الكراهية عبر جهود الدولة وبمشاركة المسلمين.
* كاتب ومحلل سياسي